حسني بك البرازي

 Husni al Barazi

 1895 - 1975


(Courtesy of Al Nahar newspaper)

Husni al-Barazi was born in 1895 in the Syrian city of Hama into a prominent landowning family of Kurdish origin. He was educated in Istanbul and received a degree from the Istanbul School of Law. During the French Mandate, Al-Barazi joined the Syrian opposition to French rule, but in 1926 he was arrested for his opposition activities and was exiled to Lebanon. Upon returning to Syria in 1928, Al-Barazi ran for parliamentary elections and was elected a Member of the Syrian Parliament.

He was appointed Minister of Culture from 1934 till 1936, then Governor of Alexandretta (Iskandaroun) from 1936 to 1938. In April 1942 he was appointed Prime Minister, but was removed from his position and isolated by the French authorities in January 1943, following which he again moved to Lebanon. Al Barazi returned to Syria in 1946 and remained in his position as Member of Parliament during all the military coups that took place from the late forties until the mid fifties. During this period, he was accused of plotting against the state and was arrested several times.

He went into final exile in 1954, when, while he was on a trip to Turkey, he was accused of plotting and conspiring against Syria, and was sentenced to death in absentia. In the late 60’s, al-Barazi was pardoned on account of his old age but never returned to Syria; he remained in exile between Lebanon and Turkey, where he died in 1975.

(The text below is a transcription of an audio interview. Times in parentheses denote the approximate position of the text in the audio stream.)


مقابلة مع دولة الرئيس
حسني بك البرازي
رئيس الوزراء السابق في سوريا
تحقيق
قسم التّاريخ الشّفهي - دراسات الشرق الأوسط
الجامعة الأميركيّة في بيروت
1969

مذكّرات حسني بك البرازي

( Start audio: MP3)

(00:00:00)
تاريخ العائلة:

(00:00:00)
س ـ هل باستطاعتك أن تخبرنا شيئاً عن تاريخ حياتك: أين ولدت وأين درست؟

ج ـ ولدت في حماه، سوريا سنة 1895، وقد أتى أجدادي إلى حماه منذ 150 سنة، وهم من عائلة كرديّة كبيرة تتألّف من حوالي 30 ألف نسمة، مركزها في قسم من الأراضي التّركيّة،كطرابلس كعين العرب وأورفة وسروف وهندراباس. ولا يزال إلى اليوم من القبيلة البرازيّة أناس رحّل يسكنون الخيام ويرعون الإبل والأغنام. غير أنّه يوجد أيضاً أناس منهم متحضّرون يسكنون في بلدة عين العرب وطرابلس وغيرها من المناطق التّركيّة. والعائلة ببدوها وحضرها على اتّصال وثيق بعضها ببعض.

وقد أتى إلى هنا اثنان أو ثلاثة من المناطق الكرديّة في الشّمال. أمّا جدّ العائلة هنا فيدعى محمد عرب باكي، وقد كان له عشرة بنين وأربع عشرة بنتاً من أمّهات أربع كانت خامستهنّ أمّة حبشيّة. فالرّجال في السّابق كانوا يتزوّجون غير واحدة، (نحن طبعاً هل إيأم من واحدة منخاف لو يصرلنا نقسم المرأة اثني) إذ كانت عندهم جرأة ووسائل الحياة متوفّرة ما في هل كماليّات هل واجبات، ما في هل أعباء للأبناء وللبنات من دراستهم يعني صار عبء كبير.

(00:03:16)
س ـ كم أخاً لكم وكم أختاً؟

ج ـ لي ثلاثة إخوة وثلاث أخوات. مات منهم أخوان وأخت. وأنا دخلت بالمدرسة.

(00:03:41)
سنوات الدراسة

(00:03:41)
س ـ لا شكّ أن إخوتك وأخواتك متعلّمون مثلك.

ج ـ لا. واحد منهم تعلّم والآخر لم يكمل دروسه. أمّا أخواتي فلم يتعلّمن. ففي ذلك الوقت لم يكن المحيط محيط دراسة، كما أنّ الدّراسة في أيّام الدّولة العثمانيّة لم تكن منتشرة وميسّرة. أمّا أنا فقد أكملت دراستي الإبتدائيّة في ثلاث سنوات ثمّ دخلت "الرّشيديّة" حيث بقيت أربع سنوات. وكان المعلّمون كلّهم من الأتراك، وإن وُجد معلّم عربي فيما بينهم فقد كان يعلّم العربي بالتّركيّة، لذلك كانت لغتي العربيّة ضعيفة، بعكس لغتي التّركيّة، طلعنا بالعربي سطل. وقد درست العربية فيما بعد على أساتذة خصوصيّين. ثمّ أكملت دراستي الإعداديّة في استانبول وحلب. ففي استانبول كنت طالباً داخلياً في المدرسة الإعداديّة ثمّ دخلت معهد الحقوق حيث بقيت أربع سنوات. وقد كنّا 1200 طالب في صفّ واحد ينقسم إلى أربع شعب. في زمن سلطان عبد الحميد وبزمن سلاطين بني عثمان يعني الحقيقة كانت حماستي للدّراسة تقودني إلى المرتبة الأولى في الصفّ، وقد حافظت على هذه المرتبة في جميع الصّفوف ولا سيّما في معهد الحقوق حيث استأثرت بالمرتبة الأولى طيلة السّنوات الأربع التي قضيتها فيها. ولم يتخرّج من الطلاّب من الألف والمئتين إلاّ 750 طالباً فقط. تخرّجنا في الحقوق وكنت أتابع الدّروس بانتظام لا أدخل ولا اطلع إلاّ من المدرسة إلى البيت طالب جدّي منصرف تماماً.

(00:07:16)
س ـ هل تذكر بعض رفاقك في الصفّ؟

ج ـ كان الطلاّب من العرب والروم والأرمن والأتراك ومن عناصر أخرى من الدولة العثمانيّة كلّها. وكنّا نتسابق على المرتبة الأولى، غير أنّني كنت أحظى بها دائماً، حتّى أخذ النّاس يتذمّرون: كيف ابن العرب يفوز بالمرتبة الأولى حتّى على الأتراك، في حين أن لغة التّدريس كانت التّركيّة. وكان من جرّاء ذلك أن قدم وفد من دمشق ليتعرّفوا بحسني البرازي كيف بياخذ الأوّليّة. وكان على رأس ذلك الوفد المرحوم سعيد الغزّي. وقد كتبت الصحف في مصر عن ذلك.

أمّا رفاقنا فقد كانوا المرحوم سامي الصّلح، وقد تخرّج عام دخولنا، كما كان من اللّبنانيّين سيف الدّين الخطيب وتوفيق البساط ورياض الصّلح الذي بقي مدّة قصيرة ولم يكمّل تحصيله هناك، كذلك كان معنا ابن عمّه عفيف الصّلح وممتاز الصّلح أخو سامي. أمّا من السّوريّين فقد كان معنا الكثير. وقد أُعدم عدد من رفاقنا كتوفيق البساط من صيدا وجدال البخاري وسيف الدّين الخطيب. وكان ذلك في عهد جمال باشا السّفّاح. أمّا من العراقي فقد كان ناجي شوكت، رئيس الوزارة العراقيّة السّابق، وتوفيق السّويدي وكان هناك يوسف العظمي.

(00:09:56)
س ـ هل كان المسيحيّون يدرسون هناك أم في أوروبا؟

ج ـ كان أكثرهم يذهب إلى أوروبا غير أنّ عدداً منهم كان يدرس في استانبول، كرفيق رزق سلّوم الّذي أُعدم كان في اسانبول، وفائز الخوري الذي كان رفيقاً لنا في معهد الحقوق وكان نائباً.وهذا كان من رفاقنا نوري السّعيد الذي كان يدرس في المكتب الحربي في العراق مع عدد من العسكريّين منهم جعفر باشا العسكري وغيره من القوّاد العسكريّين. أمّا في المركز الطبّي فقد كان يوجد عدد من العراقيّين والسّوريّين. وكانت الجامعة الأميركيّة في بيروت من أفضل جامعات تركيا لنظامها وقوّة الدّروس فيها وإتقانها، كما كان أساتذتها جميعهم من خرّيجي أوروبا وأميركا. أما نحن فقد كان أساتذتنا في معهد الحقوق من أعظم الأساتذة ومن الإختصاصيّين. حقوقيّين جزائيّين دوليّين. أذكر منهم علي حيدر، وكانت له مجلّة مطبوعة، ومصطفى خوزي الذي أصبح شيخ الإسلام، وهرميّان خسرويان وكان أرمنيّاً ولكنّه كان رجلاً قديراً، وجلال الدّين عارف كان من أساتذة الحقوق. وكان من بين أساتذة الحقوق أيضاً إسماعيل حقّي بابان وهو من عرب الأكراد.

(00:12:21)
المنتدى الأدبي والعلاقة بين العرب والأتراك / أول مواجهة مع جمال باشا

(00:12:21)
س ـ هل باستطاعتك، حسني بك، أن تخبرنا عن النّادي؟

ج ـ كان ذلك أثناء الدّراسة. فقد أسّسنا نحن الشّبان العرب هناك النّادي الأدبي. وكان هذا المنتدى مكاناً اخترناه يجتمع فيه الطلاّب العرب للمذاكرة والمداولة. وفي ذلك الوقت بدأت الحركة القوميّة العربيّة تظهر إلى الميدان، وكنّا من المتحمّسين لها. وكان النّادي يتّخذ صفة أدبيّة لا سياسيّة لانّ النوادي السياسيّة لم يكن مرخّصاً لها. فكنّا نحن الطلاّب العرب نجتمع على اختلاف أقاليمنا ومدننا. وبدأ النادي يتّخذ صفته السّياسيّة عندما أخذنا نتّصل بالنوّاب العرب من كلا مجلس النوّاب ومجلس الأعيان، وقد كنت أداوم على حضور جلسات مجلس النوّاب. وقبيل نشوب الحرب، أي حوالي سنة 1913، استدعانا جمال باشا، الذي كان قد عُيّن قائداً في الجيش الرابع في سوريا ولبنان لقيادة الحملة المصريّة. وكان ذلك على أثر قيامنا في تظاهرة لنزور في السجن الجنرال عزيز علي المصري المعروف بوطنيّته. وكانوا قد تنبّهوا لهذه التّظاهرة فأوقفونا ثمّ أطلقوا سراحنا واستدعوا وفداً منّا لمقابلة جمال باشا والتّباحث معه. وقد كنت على رأس الوفد والمتكلّم باسمه. وأذكر من أعضاء الوفد المرحوم الأمير عادل أرسلان من رفاقنا وكذلك رابع الكيخيا من حلب وزير كان معي يدرس الحقوق وابراهيم الذي كان أكبر منا وسعد الله الجابري وشكري العسلي وعبد الوهّاب الإنكليزي. وكان هؤلاء من الشبّان اللاّمعين وطنيّة ودراسة. قال لنا جمال باشا: "بأيّة صفة تتكلّمون؟" قلنا: "بصفة كوننا عرباً وبصفة كوننا شباب عربي يدرس ويسعى لتأمين حقوق البلاد العربية، فحقوقنا مغموطة سواء أكان ذلك في العلم والدراسة أم في العمران". قال: "أنا لا أقبلكم بهذه الصّفة، بل أقبلكم على أنّكم عثمانيّون أتراك، من رعايا الدولة العثمانيّة". قلنا له: "نحن لا نتكلّم بهذه الصّفة، ولا نقبل ولذلك فسننسحب". ونهضت وتبعني بقيّة الأعضاء وقتها كانت الشجاعة توصل الى المقصلة. فلحقونا وطلبوا منّا الرجوع. ويبدو إن جمال خابر طلعت باشا الذي كان رئيس للوزراء وهكذا عدنا إليه.

(00:18:17)
س ـ هل باستطاعتك، حسني بك، أن تخبرنا عن المطالب التي طلبتموها من جمال باشا؟

ج ـ قلنا له في أثناء الحديث: "إنّ لنا كياننا العربي وإنّ لغتنا هي العربيّة، وهي تُدرّس في مدارسنا كما تدرّس اللّغة التّركيّة. لذلك نريد حكماً قومياً عربياً في بلادنا ضمن إطار عثماني. فإنّ لأمّتنا ماضياً مجيداً وتاريخاً ناصعاً، فلا يجوز أن تطمس معالم تاريخها وأوضاعها السّياسيّة الماضية بهذا الشّكل. ومن الصعب هضم الأمة العربية والقوميّة العربية بل إنّها لا تُهضم، فقد أثبت التّاريخ في جميع أدواره أنّ للأمّة العربية التأثير والكيان والمكانة العظمى. وتوسّع البحث واحتجّينا على توقيف عزيز علي المصري وقلنا إن هذا الإضطهاد لا يجوز. وثابرنا على الإجتماع في النادي الأدبي.

(00:19:45)
س ـ هل بقوا يتدخّلون معكم في النادي؟

ج ـ وضع النادي تحت المراقبة. وصرنا نشعر بأنّنا مُراقبون دائماً. وعندما أوشكت الحرب على الوقوع سجّلوا أسماء أعضاء النادي كلّهم ثمّ أخذوا يتحرّون عنّا، وأتى جمال باشا إلى هنا حاكماً. وكان الحاكم قبله زكي باشا البرازي، وهو من أقاربنا، فجاء مرّة إلى حماه نزل عندي وأخذنا نتباحث فقلت له: "إنّ الحرب أصبحت على الأبواب ونحن في الخدمة المقصورة ـ أي المقصورة على المتعلّمين والمتخرّجين الّذين كانوا يُرسلون ضباط إحتياط. وكنّا فئة محدودة تقتصر على حوالي ثلاث مئة عربي. وكان هدف الحكومة أن يأخذونا ويتدبّروا أمرنا وذلك بإقامة "حفلة إفناء" لنا. فاعتذر زكي باشا عن ذلك قائلاً إن أحوال العرب صعبة لأنّهم في وضع سياسي معيّن.

قال لي مرّة عبد الكريم خليل، وهو أوّل مَن أعدمه جمال باشا وهو من صيدا أو صور - شيعي: "بإمكانك أن تترك الخدمة المقصورة وتنخرط في النفر العادي". ووافقت على ذلك وقدّمت الطلب إلى الأقلام العسكريّة وأصبحت أشتغل بالكتابة، بينما كان أكثر رفاقنا موزّعين في أماكن مختلفة، في القلعة واستانبول والدردانيل، كما كان بعضهم في الأناضول وعلى الحدود الروسية والحدود البصرية. أما انا، بهذه الواسطة، فنجوت من الخدمة العسكرية وانخرطت في الخدمة غير المسلّحة.

وتولّى جمال باشا بعد زكي باشا. وقد كانت ساعة وصول جمال باشا من الساعات الرّهيبة في حياتي، ذلك لأنّني كنت على رأس وفد الطلاّب الذين قابلوه في اسانبول وكان وضعي معه شديد. وأراد جمال باشا أن يتصرّف بالطلاّب العرب الذين استثنوا من الخدمة المقصورة، فصففنا اثنين اثنين في صفّ طويل، ثمّ بدأ استعراضه بعنفوانه وشكله الطّاغي السفّاح، وقد عملت كلّ ما بوسعي كي لا يراني وجهاً لوجه. صرت أختبئ باللي أمامي كي لايراني فلو رآني لكان أرسلني رأساً إلى المقصلة... هذه من ذكرياتي الأولى.

(00:23:54)
حزب العهد:

أثناء الحرب العالمية الأولى عملت بالزّراعة، فعائلتنا كلّها تتعاطى الزّراعة، كذلك اشتغلت بالسياسة: بالأمور القومية والحزبية، فقد كان هنالك حزب العهد، وكان منقسماً إلى قسمين: قسم عراقي وآخر سوري، فعملت على توحيد هذا الحزب ووفقنا إلى ذلك وأخذنا نعمل ضمن حزب العهد الواحد، وهو حزب إستقلالي قومي عربي، وكان يضمّ السّوريين واللّبنانيّين والعراقيّين والأردنيّن والفلسطينيّين.

(00:25:03)
س ـ هل كان فيه مصريّون؟

ج ـ كلاّ، لم يصبح المصريّون عرباً ألاّ في عهد جمال عبد النّاصر عندما اتُّّخذت العروبة وسيلة للإستغلال وأصبحت قميص عثمان. لم يعلم المصريون إنهم عرب بل كانوا يرفضون القول إنّهم عرب فهم مصريون فقط. كانوا يسمّون اللّبناني أو السّوري بالخورشامي ويدعوننا بالشّوام. والشّوام عندهم بعيدون عن المصريّين.

(00:25:52)
س ـ هل حُلّ الحزب أم بقي كما هو؟

ج ـ بقي على حاله إلى حين نشوب الحرب العالمية الأولى سنة 1914.

(00:26:12)
س ـ متى ابتدأ الحزب بالعمل؟

ج ـ ابتدأ الحزب في استانبول ومن ثمّ إلى العراق فإلى الشام. وتوحّد مبدئيّاً قبل نشوب الحرب.

(00:26:35)
الحرب العالمية الأولى والثورة العربية: الملك فيصل والجيش السوري:

ولمّا نشبت الحرب قام الشّريف حسين، وهو والد فيصل، بقومته المعروفة، ضدّ الدولة العثمانية داعياً إلى استقلال العرب. وكان الحسين أوّل مَن نادى بالقوميّة العربية وبالإستقلال والوحدة العربية وتحقيق مطالب العرب. وكانت ثورته التي قام بها أوّل ثورة عربية حقيقية في هذا العصر. وقد جاء أبناؤه فيصل وعبد الله وعلي إلى الشام قوّاداً مع الجيش الإنكليزي وكانوا بالأمام وكان الجيش وراءهم. طبعاً بعد 400 سنة من الحكم العثماني لم يثر أحد الا بعد المجازر التي حصلت بحق الناس. أما نحن فقد أيّدنا الثورة وانهزم الجيش التركي من جراء الحملة العسكريّة على مصر على قناة السّويس، وأتى الجيش الإنكليزي ثم جاء الملك حسين وجيشه وكان على رأسه الملك فيصل الأوّل ودخلوا سوريا فاتحين مطالبين بالاستقلال العربي. وفي أثناء ذلك كان الملك فيصل الأوّل ضيفاً عندي ينزل في بيتي في سوريا. وتمّ فتح سوريا وأعقبها لبنان وفلسطين والأردن، وبدأ الكيان العربي بالظهور وتوّج الملك فيصل كأمير على سوريا ثم عاد يتعقّب الحقوق السّياسيّة. وكانت الحلفاء في أثناء ذلك تتحضّر للإجتماع مع الفئة الثّانية. هذا وقد عُيّنت في عهد فيصل مفتّشاً للعدليّة في سوريا.

(00:30:45)
س ـ كم كان عمرك؟

ج ـ حوالي 25 سنة. فقد أنهيت دراستي في العشرين أو الواحد والعشرين من عمري تقريباً، أي في سنة 1914.

وبعد أن دُعيت للتّفتيش أتى المستر كراين الأميركي على رأس لجنة دوليّة للتّحقيق في موضوع استقلال البلاد العربية. فكلّفني حزب العهد، وكنت آنذاك أمين سرّه، بمقابلته. فقابلته وتحدّثت معه وطالبنا بالإستقلال وتأمين الحقوق القوميّة العربيّة. وكان دايزن كامل الإتجاه الرسمي للملك فيصل وكان رضا باشا رئيساً للوزراء والحكم القائم مطالبين بانتداب أميركا. وإن لم تقبل أميركا فإنكلترا. أما فرنسا فقد رفضت رفضاً باتّاً.

(00:33:05)
س ـ على أي أساس رفضت فرنسا في ذلك الوقت؟

ج ـ هكذا كان اتّجاه الأكثرية. فقد كانوا يسمعون أن الأميركيين والإنكليز لا يعرفون المستعمرات، بعكس الفرنسيين. فالجزائر وتونس ومراكش في غاية من البؤس. وكذلك كان الرأي في لبنان. أمّا نحن، حزب العهد، فقد قرّرنا إنّه لا يجوز أن نستثني فرنسا ونقبل بغيرها. فإمّا الإستقلال وإمّا رفض الإنتداب كلّه. ووجدنا أنّ المصلحة العربية القوميّة تقضي بأن يعلو صوت من البلاد العربية، وخاصّة من سوريا، ضدّ الإنتداب. مطلق طلب الإستقلال. وبصفة كوني مفتّشاً عدليّاً، اعتُبر ذلك منّي خروج عن السياسة الرّاهنة، وأرادوا أن يسحبوني من حمص مركز عملي. وعندما جاء كرين إلى دمشق تسلّمت برقية مفادها أن أذهب إلى دمشق وأقابله. ولكنّني رفضت الذّهاب فكان عملي قد انتهى هناك. ولم أذهب لأقابل كرين وهكذا قدّمت استقالتي. ثمّ صمّمت على السّفر إلى فرنسا بغية إكمال علومي ونيل الدكتوراه. فدرست الفرنسيّة على نفسي، ذلك أن الجامعات التركية لم تكن تدرّس اللّغة الفرنسية. وأصبحت أستطيع التّعبير عن نفسي بالفرنسية في المفاوضات والمباحثات. ثمّ ذهبت إلى باريس. وفي مدّة لا تتجاوز الشّهرين أجدت الفرنسيّة وقدّمت طلباً للإمتحان في "الفاكولتي" و"السوربون". ودخلت كلية الحقوق وأخذت أداوم الدّراسة في السوربون إلى أن أتى الملك فيصل إلى لندن مفاوضاً. وفي تلك الأثناء كانت الدول الحليفة قد تآمرت للإستيلاء على البلاد العربية واقتسامها. فكانت سوريا ولبنان من نصيب فرنسا. وهكذا قالوا للملك فيصل أن يذهب إلى باريس فذهب. وقابلته هناك وصافحته ـ وقد كنّا أصدقاء ـ وقال لي:"ماذا تعمل هنا"؟ قلت: "تركت التّفتيش لأكمل دراستي". فمانع وعارض فكرتي (وكان رئيس وزراء فرنسا آنذاك المسيو كليمنصو، وهو رجل من رجال فرنسا العظماء). وأصرّ الملك على أن أكون معه في المفاوضات قائلاً: "إنّها فترة تقرير مصيرنا والمصير العربي، ولا نقدر على الإستغناء عنك. فأنت رفيقنا في الجهاد والنضال وأرى أن تكون برفقتنا". وهكذا اضطررت على ترك الدراسة والتحقت به إلى أن انتهت المفاوضات. وقد أدّت هذه المفاوضات إلى إبرام عدّة أمور منها معاهدة بين سوريا وفرنسا. وبعد المفاوضات حاولت البقاء في باريس ولكنّ الملك أصرّ عليّ بالعودة معه. فرجعنا. وقد استقلّينا قطاراً خاصاً من باريس إلى تولون وكان بانتظارنا في تولون بارجة حربية تدعى جان جاك روسو. وفي ثلاثة أيام وصلنا إلى بيروت حيث جرى للملك فيصل استقبال حافل ضمّ من الزعماء اللّبنانيين ساسة قدماء من آل الداعوق وسرسق وبيهم وثابت وبسترس وبقيّة العائلات القديمة التي كانت تشتغل بالسياسة. ثم ذهبنا إلى دمشق. وهنالك عقد مؤتمر رفضت المعاهدة المتّفق عليها مع كليمنصو. وكان هاشم الأتاسي رئيساً للمؤتمر، كما كان متصرّفاً لحمص وهي ذات مركز حرج دقيق بالنسبة للحدود اللبنانية فقد كان وجود الفرنسيين في لبنان وجوداً قوياً. وألحّ الملك فيصل عليّ أن أكون متصرّفاً في حمص خلفاً لهاشم الأتاسي. فذهبت إليها كمتصرّف وفي تلك الأثناء حدثت مناوشات بين الجيش السوري والجيش الفرنسي.

(00:39:42)
س ـ كيف كان الجيش السوري؟

ج ـ كان الجيش السوري صغيراً محدوداً بمعدّاته وضبّاطه الذين درسوا في الدولة العثمانيّة. وقد جرت المناوشات سنة 1919. ثمّ معركة ميسلون المعروفة واستشهد المرحوم يوسف العظمي، وانهزم الجيش السوري. كان انهزامه منتظراً لأنه لم يكن منظّماً. وكان دخوله الحرب بالأساس خطأً تاريخياً وغلطة قوميّة كبرى فقد دخلوا الحرب دون استعداد. ومع ذلك لم يكن انهزامهم عبرة لهم. وعندما لا يعتبر المرء تتكرّر الحوادث. كذلك كانت التّفرقة والغلوّ وعدم الوقوف عند الحدّ كلها عوامل لنكبة البلاد. وبدأت النّكبة بوقتها بعد الحرب. فلو عقد فيصل مع الفرنسيين اتّفاقاً يحفظ الكرامة على غرار اتّفاقه مع كليمنصو، لكان أولى وأنفع. وهكذا ذهبت خمس وعشرون سنة سدى من الـ 20 ـ 45 راحت هدر كلها مشاحنات وخلافات وثورات أدّت إلى خراب البلاد بزراعتها وثروتها وصناعتها وثقافتها. وأنا كنت دائماً ميّال للإيجابية وتحمّل المسؤوليّات. وعندما يكون الإنسان واثقاً من نفسه فهو يرغب في تحمّل المسؤوليات. في تلك الفترة كان التّطرّف هو الرّاجح.

(00:42:42)
س ـ هل باستطاعتك أن تخبرنا عن الملك فيصل لمعرفتك به معرفة وثيقة؟

ج ـ كانت دراسة الملك فيصل محدودة، ولكنّه كان خارق الذّكاء، وكان رجلاً عاقلاً جذّاباً متواضعاً ذا ضمير حيّ وإيمان قومي وإيمان عربي وشهامة وإخلاص. وكان بسيطاً في حياته ومعيشته بعيداً عن التعصّب.وأثبت أنه كان واضع روحه على كفّه وأتى إلى الشام قبل الحرب وقابل شخصيّات مختلفة من العرب وانا كنت بيناتهم ورجع إلى والده الشّريف حسين ورتّبوا هل ثورة وكانوا بمعونة الإنكليز وقتها ماديّاً ومعنويّاً وتوفّقوا أن يعلنوا هل ثورة ويؤسّسوا هل كيان العربي ـ القوميّة العربية. رجل ذو شهامة وإخلاص وضمير حي نذر حياته للقومية.

(00:44:14)
س ـ أين تلقّى علومه؟

ج ـ تعلّم في مدارس خاصّة. كان والده عضواً في مجلس الأعيان في استانبول، فدخل فيصل مدارس تركيّة، كما درس على نفسه بمساعدة أساتذة خصوصيين. أمّا لغته العربيّة فلا بأس بها مع أنه لم يدرسها دراسة متقنة، إي أنّه كان ذكيّاً بالفطرة ناضجاً رزيناً. وأحسن صفتين فيه هما الإيمان والإخلاص لأمّته العربيّة دون أي تعصّب لدين ومذهب بل بحريّة تامة.

(00:45:14)
س ـ كم سنة بقيت متصرّفاً في حمص؟

ج ـ أقلّ من سنة.

(00:45:20)
س ـ ما هي واجبات المتصرّف، وهل باستطاعتك أن تخبرنا بعض الشيء عنها؟

ج ـ المتصرّف هو رئيس الإدارة المسؤول. ويمثّل جميع الوزارات المركزيّة، كما يمثّل الحكومة.

(00:45:50)
س ـ ما هي الإدارات التي تحت إدارته؟

ج ـ المحاكم الشّرعيّة ودائرة الأمن العام والمحاكم القضائيّة والشؤون الماليّة والعدلية التي ما زالت نفسها حتى الآن. وهو المسؤول عن النظام أمام الحكومة ويمثّل الحكومة في جميع شؤونها.

(00:46:30)
بداية الإنتداب الفرنسي والمعارضة السورية – النفي الأول:

ولمّا دخل الفرنسيون طبعاً انا انسحبت وغادر الملك فيصل سوريا. وكان علاء الدّين الدّروبي آنذاك رئيساً للوزارة. وكان هنالك هاشم الأتاسي وعبد الرّحمن اليوسف. ولمّا انسحب الملك فيصل قتل الثوّار عبد الرحمن اليوسف وعلاء الدّين الدّروبي في حوران. وقد انسحبنا لأمور سياسيّة وللعمل لأجل القوميّة العربية. انسحبنا ورفاقنا من لبنانيين وسوريين وعراقيين وفلسطينيين، وبقينا مثابرين على العمل وعلى الإتّصال بعضنا ببعض بواسطة الرّسائل والإجتماعات.

(00:47:45)
س ـ هل لا تزال محتفظاً بالرّسائل؟

ج ـ نعم لا أزال ولكنّها مبعثرة. فقد أمضينا في المنفى والسجون مدّة كبيرة كما انتقلنا من مكان إلى آخر. ففي سنة 1926 كانت الثورة مشتعلة في البلاد السورية، فدعيت أنا ورفاقي إلى بيروت للمفاوضة واجتمعنا بالمفوّض السامي دي جوفنيل وببعض الشّخصيّات الفرنسية البارزة. وقد كنت على رأس المفاوضين. وتمّ التّفاهم بيني وبين دي جوفنيل واتّفقنا على تأليف حكومة على رأسها الداماد صهر السلطان بني عثمان الذي كان ساكناً هنا. فأصبح رئيساً للوزارة، وتسلّمت وزارة الدّاخليّة واشترك معنا في الوزارة فارس الخوري ولطفي الحجار وأشخاص آخرون. وما أن اكتملت الوزارة حتّى اتّفقنا في غضون اسبوعين من المفاوضات على أمور معيّنة لحفظ كرامة البلاد واستقلالها، ولحفظ الحقوق القوميّة. وكان ذلك في شكل معاهدة عُيّنت فيها حدود المصالح الفرنسية الإقتصادية وتعترف باستقلال البلاد وبكيانها القومي. وكان هو رجل متسامح وسياسي محنّك مخلص كان لفرنسا وظهر منه نحونا اعتراف بالحقوق وبالمسائل القومية وذهب دي جوفنيل ليعرض على الحكومة الفرنسية الإتّفاق الذي تمّ بيننا وبينهم. غير أنّ الحكومة الفرنسية مع الأسف رفضت الإتّفاق وقالوا ان الجيش الفرنسي رفضه بحجّة أن مثل هذا الإتّفاق لا يمكن تنفيذه إلاّ بعد أن يقمع الجيش الفرنسي الثورة السورية بالقوّة، وذلك لحفظ كرامة الجيش. هذه العقلية الفرنسية. استقال دي جوفنيل على أثر ذلك احتجاجاً منه على هذه المعارضة. وقد كان رجلاً شريفاً صاحب قول ومسؤول عن كلمته وعندما علمنا بذلك قلنا: "ونحن أيضاً سنستقيل". غير أنّ السّلطات الفرنسية هدّدتنا إذا نحن قدمنا على هذا الأمر. وأعلمنا الجيش الفرنسي والمفوّض السّامي أنّه في حال إقدامنا على الإستقالة فسيعتبروننا من الثّوّار، إذ إننا نكون بعملنا هذا نشجّع الثورة. وبالتّالي سيتمّ اعتقالنا. غير أننا أصررنا على الإستقالة مهما كلّف الأمر ذلك لأننا كنّا قد قبلنا بالمنصب شرط تنفيذ البرنامج وعلى أساسه تتوقّف الثورة. وهكذا قلنا لهم: "إذا كنتم لا تقبلون بذلك نترك المسؤولية عليكم، المسؤولية التاريخية، أما نحن فقد قمنا بواجبنا، ولم ندخل الحكم ولم نقبل بتسلّم الوظائف من أجل المراكز بل لكي نحلّ القضيّة السّياسية بين فرنسا وسوريا ونؤمّن الحقوق لهذا البلد. وأصررنا على الإستقالة واستقلنا. وفي اللّيل أقلّتنا كالعادة إلى حمص سيارات مصفّحة تحت حراسة شديدة.

(00:53:14)
س ـ هل استقالت الوزارة كلّها؟

ج ـ كلاّ، ثلاثة وزراء فقط: أنا وفارس الخوري ولطفي الحفّار. أما الآخرون فبقوا. لقد تخاذلوا امام هذا الموقف. وهكذا بقي الدامار وكذلك الرئيس، مع أننا كنا قد تعاهدنا على أنه إذا تركنا نحن يترك هو. ولكنه لم يترك. وأخذنا من حمص إلى الحسكة، وكانت آنذاك قرية صغيرة في الصحراء، وبقينا تحت المراقبة والحراسة الشديدة. وكان معنا سعدالله الجابري مع أنّه لم يكن عضواً في الحكومة، كذلك كان معنا فوزي الغزّي وفارس الخوري ولطفي الحفّار والصحافي بدر الدّين الصّفدي والمحامي أديب الصّفدي. وبقينا هناك شهرين في الحرّ الشديد. أخيراً أشفق الفرنسيون علينا فنقلونا إلى لبنان ـ لبنان منفانا الدّائم ـ نفيت أنا وفارس الخوري ولطفي الحفّار إلى أميون الكورة، أما فوزي الغزّي وسعد الله الجابري فقد نفيا إلى دومة الكورة. وبقينا في أميون سنة وكنت لم أتزوّج بعد. هناك تعرّفت بصديق هو الأستاذ يوسف يزبك، المؤرّخ وكان من المعتقلين. وكان أعزب أيضاً. وتوطّدت عرى الصّداقة بيننا وبقينا سنة سويّاً. إنّ بيني وبينه صداقة متينة وإني أقدّره لما يتحلّى به من إخلاص وثقافة. في أميون لم نكن معتقلين في السّجن بل كانوا يسمحون لنا أن نختار مقرّ مسكناً ضمن البلدة.

(00:56:21)
س ـ هل كان باستطاعتكم أن تتّصلوا بالأحزاب؟

ج ـ كانت المراقبة شديدة، ولكنّها لم تحل بيننا وبين الإتّصال بالخارج.

من مذكّرات المنفى أن رئيس الإستخبارات في الجيش الفرنسي، الكومندان تراكول رغب ذات مرّة أن يزور السّراي في أميون. وبصفة كوننا وزراء منفيّين، دعينا إلى زيارته في السراي، فرفضت، ذلك إنّني لم أكنّ لهم أي ودّ. فأصرّ عليّ فارس الخوري ولطفي الحفّار بالذهاب فلم أقبل فذهبا وحدهما وقابلا الكومندان فسألهما عن سبب تخلّفي قائلاً: "هلاّ يزال يظنّ إنه وزير للداخلية في سوريا"؟ فقال له فارس الخوري ولطفي الحفّار: "إنّه عنفوان الشباب. وهو متألّم من النّفي والإعتقال". وأبدى الكومندان استعداده لتنفيذ أيّة خدمة يستطيع تقديمها لهما، ففوجئنا بالطلب. وكان المرحوم لطفي الحفّار مولعاً بالحمّام ولم يكن هنالك حمّامات إلاّ في الأسواق. فبادره المرحوم لطفي الحفّار قائلاً: "حمّام"؟ ومعنى ذلك الذّهاب إلى طرابلس. فليس في المنطقة كلّها حمّام إلاّ في طرابلس. ووافق الكومندان على طلبهما وسألاه أن يسمح لي بالذهاب معهما، فلم يقبل. وأخبراني بالقصّة، فلم أهتمّ لأنني منذ أن ذهبت إلى استانبول صغيراً اعتدت على الحمام البارد كلّ يوم. وانتظرا حوالي خمسة عشر يوماً ثمّ جاءت التّعليمات مكوّنة من خمسين مادّة كلّها لأجل الحمّام. وأتى ضابط فرنسي بسيّارة مع نفرين فاستقلّها فارس الخوري ولطفي الحفّار واستقلّ ضابط آخر سيارة ثانية، وسارت أمامهما سيارة أخرى مليئة بالجنود الفرنسيين ووراءهما سيارة مماثلة: أمامهما سيارة درك ووراءهما سيارة درك. ولما وصل الموكب إلى البحصاص، مدخل طرابلس، كانت قوّة من الجيش والشّرطة في انتظارهما وسار الموكب إلى السراي وصعد فارس الخوري ولطفي الحفار إليها ليثبتا وجودهما عند المستشار الفرنسي، ثمّ ذهبا إلى الحمام. ثمّ رجعا بالتّرتيب ذاته. وكان الحمام محاصر والكلام ممنوع مع الطرابلسيين وما شابه ذلك. وقال فارس الخوري للطفي الحفار: "ما رأيك بهذا الحمام"؟ فأجاب: "هذا تشهير وليس بحمام. الحقّ مع حسني البرازي في عدم المجيء. تبّاً لها من مكافأة" قال له فارس الخوري: "يجب أن نكتم عنه ما حدث كي لا يشمت بنا". وبالفعل كتما عنّي الأمر ولكنّه ما لبث أن اشتهر وأصبح كلّ من في أميون يعرف القصّة. بقينا في أميون سنة ثمّ ذهبنا إلى بيروت.

(00:56:71)
س ـ طبعاً كان باستطاعتك أن تتكلّموا بعضكم مع بعض؟

ج ـ نعم كنا نتكلّم في البيت، وكنا نبحث الأمور التي نريد القيام بها. وكنا على اتّصال مع الآخرين إلى حدّ محدود. وقد بقينا في بيروت سنة أخرى. وهكذا بقينا في المنفى سنتين: سنة في أميون وسنة في بيروت. فقد أتينا إلى المنفى سنة 1926 وعدنا إلى سوريا سنة 1928.

(01:01:49)
العودة إلى سوريا: انتخابات 1928 و1932 والدستور السوري:

وجرت إنتخابات الجمعيّة التأسيسية وفزت بالنيابة عن حماه. واجتمعت الجمعية التأسيسية بغية سنّ دستور للبلاد يحدّد الحقوق والواجبات والمصالح بيننا وبين الفرنسيين. وفي أثناء البحث في مشروع الدستور نشب خلاف بيننا وبين الفرنسيين. فقد أراد الفرنسيون إضافة ستّ مواد إحترازيّة تعيّن حقوقهم. غير أنّ ستّ مواد من هذا النوع تقييد للسيادة الوطنية وإرادة لسلب الحكم منا.

وقد اندمج في ذلك الوقت حزب العهد وحزب الإستقلال تحت اسم الكتلة الوطنية. أما نواب الكتلة فقد كنا نحو عشرين نائباً.

(01:04:09)
س ـ ما اسم بقيّة الأحزاب؟

ج ـ كانت بقية الأحزاب مستقلّة. أما الكتلة الوطنية فكانت تتألّف منّي ومن إبراهيم هنانو وسعدالله الجابري وشكري القوتلي ومظهر رسلان من حمص، كما كان فيها بعض الأعضاء من حلب. أما مجموع أعضاء الجمعية التأسيسية فكان حوالي ثمانين عضواً، عشرون منهم ينتمون إلى الكتلة الوطنية. ونشب الخلاف ورأيت نفسي مجبراً على قبول المواد الستّ حلاًّ للمشكلة، ذلك أن وجهة نظري واقعية وإيجابية. ولم أرَ في المواد الستّ مانعاً شرط أن نتسلّم الحكم ونقود المجلس. فنحن هم المتعلّمون الأقوياء الخطباء أما الآخرون فليس لهم مثل قوّتنا. وذلك يعني أن الحكم والتّشريع يصبح بيدنا. هذا ولم يكن في يدنا قوى أو وسائل نحارب بها الفرنسيين. وقد بقينا على ذلك من سنة 1919 إلى سنة 1928. عشر سنوات ضاعت على البلاد. فمن الأفضل إذن أن نقبل بتحمّل السؤولية إن كنا أمناء بضمائرنا وليس لمجرّد اعتلاء المناصب. هذا وليس لأحد منا قوّة شخصيّة أو ماديّة تخوّله الذهاب إلى فرنسا فيواجه رجالها ويشتكي ويتكلم ويعقد المؤتمرات. إذن ليس علينا إلاّ القبول. وقد كان المجلس بأكثريّته ميّالاً إلى ذلك. كنا نحن، الكتلة الوطنية، وحدنا المعارضين. هذا والمجلس بحاجة إلى مَن له القدرة على الخطابة والكلام ليقوده. كان الفرنسيون قد حاولوا إقناعي، ولكنّهم ظنّوا إنه من المستحيل أن أقبل بذلك فكلّفوا غيري تأليف الحكومة. وهو المرحوم شكري الجدّي، أحد إخواننا نواب حمص. أما أنا فقلت لرفاقنا وعلى رأسهم هنانو والجابري ورئيف الخوري ـ وقد كنا معاً في المجلس ـ قلت لهم إنني قبلت وٍأنني سأقف وأخطب بهذا السياق. وهذا يعني أن المسألة حُلّت وإنه لا رفض بعد الآن وإنه قد انتهى الأمر. واستغرب رفاق الدّراسة أمري هذا وكيف سنكون بعضنا ضدّ بعض ونحن رفاق. غير أن القضيّة هي مسؤولية تاريخية، كما سبق وذكرت وفي رأيي إنها أنفع وأفضل. فلماذا لا ننظر إلى الأمور بواقعيّة. إننا جماعة لا مال لنا ومع ذلك نريد أن نرسل وفداً إلى فرنسا يشكو ظلامته ويعقد المؤتمرات في أوروبا. إذن ما علينا إلاّ الإذعان كي نستطيع القيام بهذه الأمور التي بحاجة إليها في هذا البلد. ولذلك فعلينا القبول بهذه الخطوة لكي يصبح الحكم بيدنا كما هو المجلس بيدنا. وإذا نحن لن نتوصّل إلى تحقيق غايتنا الوطنية فما علينا إلاّ الإنسحاب، فنحن آمنون من أنفسنا. غير أن الرفاق لم يقبلوا وألحّوا عليّ بالرفض فرضخت ونزلت عند رغبتهم تلك خلافاً لقناعتي ولحدّ الآن أندم على ترك هل موضوع وعدم القيام به. أكثر من عشر سنوات من 28 ـ 45، 17 سنة ضاعت.

(01:09:50)
س ـ ما هي حجّتهم بعدم القبول؟ هل ظنّوا أن الشعب سيقوم ضدّهم؟

ج ـ لو قبلوا كان مشي الحال. كان عدم قبولهم خوفاً من الشارع، مع أنهم لو قبلوا لكان ذلك ربح لنا وللبلاد. لو قبلوا كان شي 20 سنة مربح وكان بإمكاننا بهذه الوسائط مجلس تشريعي والحكم بيدنا وهكذا رفض المجلس. كنا نحن، العشرون نائباً، على رأي واحد. أما بقية النواب فقد لاذوا بالصمت حتى شكري الجندي الذي كان قد عهد إليه الكلام، فلم يجرؤ على ذلك. كان ينظر إليه المفوض السامي فيسكت وينظر للأرض ويدير وجهه. موقف شجاع... وكان من جراء هذا الرفض أن حُلّ المجلس وإذا بالنواب يجدون أنفسهم ضعفاء مرة أخرى. فلم تكن هنالك إمكانات تكفي للدفاع عن الحقوق. وتسلّم الفرنسيون البلاد وقبضوا على مرافقها بيد من حديد: على الزراعة والصناعة، وحتى على الدراسة. وشعر النواب بالخطأ، وقالوا: " ليتنا سمعنا من حسني البرازي".

في سنة 1932، وكانت الإنتخابات النيابية قد قربت قرّرت الكتلة الوطنية مقاطعة الإنتخابات، غير أنني رفضت القرار وعزمت على خوضها، وقلت: "حتى لو كنت في المجلس بمفردي فباستطاعتي أن أعتمد على نفسي وأعمل ما هو نافع لبلادي". وأصرّ الرفاق على أن أقاطع الإنتخابات. وأصررت على خوضها. ثمّ إن المرحوم جميل مردم بك قرّر أيضاً خوض الإنتخابات مناورة. وكان المرحوم جميل مردم رجلاً ذكياً شريفاً، ولكنه كان يتلاعب، مناورجي. فاتّفق، بعد تمرّدي على قرار المقاطعة، هو والمندوب السامي سوليماك ومحمد علي العابد المرشّح لرئاسة الجمهورية. وكان محمد علي العابد رجلاً أميّاً ولكنه كان مفرط الغنى. فأعطى ثلاثين ألف ليرة ذهبية إلى سولمياك بواسطة المرحوم جميل مردم، فقلبوا الوضع رأساً على عقب خصوصاً بعد تظاهري ضدّهم. وحاربني الفرنسيون. كنت والمرحوم والد زوجتي في قائمة واحدة ضدّ المقاطعة وكدنا نفوز لولا انه رمى الأصوات من الصندوق صارخاً بهم: "هل لكم عندنا شيء بعد"؟ كان والد زوجتي وطنياً، وقد أدّى للبلاد خدمة عظيمة، وكان متصرّفاً في حماه. وتمّت الإنتخابات، وكان ذلك سنة 1932، وعادوا إلى السّلبية والخلافات وإلى الخوف من الشارع وإلى النظريات المتطرّفة. وقام الفرنسيين بعد مدة إلى حلّ المجلس، وألّفوا وزارة برئاسة الشيخ تاج الدين الحسين. وفي عهد تسلّّم العابد رئاسة الجمهورية، اشتركت بالحكومة وزيراً للمعارف، وبقيت تلك الحكومة مدّة سنتين برئاسة الشيخ تاج الحسيني.

(01:17:31)
تعيينه محافظ الإسكندرونة ووزير المعارف:

وكان أسلوب الفرنسيين هو السيطرة على جميع الوزارات. وكان لكل وزارة مستشار يقرّر كلّ شيء. فلما تسلّمت وزارة المعارف قلبت الوضع رأساً على عقب وجعلت نفسي المسؤول والوزير. وعرف كل من انتسب إلى وزارة المعارف في دمشق أنني كنت أنا المسؤول الأوّل والمتصرّف في جميع الأمور. وكنت أتصرّف بأمور كثيرة دون الرّجوع إلى أي مرجع، وكان ذلك بالطبع لمصلحة البلاد. وبقيت في وزارة المعارف من سنة 1934 إلى سنة 1936. وفي تلك السنة حدث تقارب بين جماعة الكتلة الوطنية والفرنسيين، فقد أراد أعضاء الكتلة الوطنية أن يقوموا بتجربة ثانية مع الفرنسيين، فاستقال الشيخ تاج الدين الحسني وذهب هاشم الأتاسي وجميل مردم إلى باريس للمفاوضة وهناك عقدت معاهدة مع الفرنسيين. أما أنا فقد استقلت. كان المفوّض السامي حينئذٍ دى مارتيل، وكان ينظر إليّ نظرة تقدير واحترام. فكلّفني بالذهاب على اسكندرون، وكانت محافظة مستقلّة فيها نظام أساسي عقد بمعاهدة دولية ـ معاهدة لوزان ـ عطوها شكل إستقلالي وقد تنازل رئيس الجمهورية عن حقوقه للمتصرّف. وكان المندوب السامي فيها رجل يدعى دريو. وذهبت إلى المحافظة، وكان المتصرّف هناك رجلاً من أهالي اسكندرون يدعى إبراهيم أدهم وهو موظّف مطيع لا شأن له ولا موجودية. فناولته المرسوم فقال: "أريد أن أرى المندوب". قلت له: "أي مندوب؟ لماذ؟ انت متصرّف. مواطن سوري. هل تظنّني أتيت لأتسلّم الحكم بمرسوم مزوّر"؟ قال: "إسمح لي". وذهب إلى عند المندوب وجلست أنتظره. وفي تلك الأثناء أرسلت إلى مدير التحرير (أي مدير القلم) أن يرسل برقية بوصولي وتسلّمي المنصب. ورجع المتصرّف ورأى الورقة على الطاولة فسألني: "ما هذه"؟ قلت له: "هذه أمانة في عنقي، فمن حين وصولي إلى هنا أصبحت المسؤول عن نظام هذا البلد. أما أنت فقد خالفت القانون. أنت سوري، ومن الأفضل أن تحافظ على كرامتك، وإلاّ فلن ترى مني أيّة معاملة حسنة". قال: "ألا تستطيع أن ترى المندوب"؟ قلت له: "أنا أتيت ألى هنا وعليه أن يأتي لزيارتي. هذه تقاليد البلاد". وأبلغ المتصرّف المندوب السامي فأتى هذا الأخير ليراني وقال لي: "هل باستطاعتك تأخير تسلّم منصبك لمدّة 24 ساعة"؟ قلت له: "وما السبب"؟ قال: "كي يتسنّى لي الإتّصال بالمفوّض السامي". قلت له: " معلوم انّه بموجب نظام البلد لا يتعيّن محافظ ألاّ بالموافقة من المفوّض السامي. فالمحافظ تعيّنه الحكومة السورية ويوافق عليه المفوّض السامي. أليس كذلك؟ هذا هو توقيع المفوّض السامي على المرسوم. وأنت تعلم أن التوقيع ليس مزوّراً. فلا يستطيع أحد أن يزوّر إمضاء كهذا. لذلك لا أستطيع أن أتأخر حتى ولا دقيقة واحدة، لأنني إذا تأخرت كنت لا أعرف واجبي ولا أحفظ كرامتي تجاه الدولة التي كلّفتني بهذه المهمّة. فارجو أن تكون منطقياً، سمعت بأن أصبح لك في هذا اللّواء حولي 13 سنة فلا أريد أن يكون موقفك كهذا الموقف". وانصرف المندوب. ولا أظنّه إلاّ اتّصل بالمفوّض السامي وأخبره بما جرى بيننا. عند دخولي السراي كان أوّل ما لفت نظري علم فرنسي كبير وعلم ثاني صغير أبيض. قلت لهم: "ما هذا"؟ قالوا: "هذا هو العلم السوري". قلت: "عند الصباح أريد أن يكون هنا علم رسميبنفس حجم العلم الآخر". وهذا ما حدث. ثمّ إني اشتريت حوالي ثلاثة اعلام من جيبي الخاصّ، حاسباً بذلك حساب السيارة. وفي الصباح أتوني بالسيارة وكان عليها علم صغير، فقلت لهم: "ما هذا العلم الصغير؟ إنه ليس بعلم. أريد علماً كبيراً". وكان ما أردت. ثمّ ذهبت إلى الدائرة فأتوني بالقرارات والمعاملات، وعليها توقيع المندوب. فسألتهم عن ذلك فقالوا: "القرارات يوقّع عليها المندوب ثمّ المحافظ". قلت: "لا أقبل بذلك". فأنا المسؤول هنا وأنا أقرّر نظام الدولة، ومن ثمّ تذهب القرارات إلى عند المندوب، فإذا لم يوافق يعترض وإذا وافق يوقّع". قالوا: "ولكننا منذ عشر سنين أو اثنتي عشرة سنة ونحن سائرون على هذه الطريقة في جميع المعاملات والقرارات. هكذا كان يفعل المحافظ السابق". قلت: "كل قرار بتعيين موظّف أو مأمور وكل معاملة مالية يجب أن تكون عندي هنا في الديوان". قالوا: "ليس عندنا ديوان. الديوان ديوان المندوب". قلت: "ليبقَ للمندوب ديوانه ولكنني سأفعل ما قلت: "للمندوب أن يعارض، ولكن إذا لم أوقّع أنا لا يستطيع موظّف أن يتوظّف ولا المعاملات أن تنجز، وكل شيء يتوقّف. إن المحافظ هو الأساس وليس المندوب". كان ذلك شيئاً جديداً بالنسبة لهم.نغمة جديدة. أتى المندوب إليّ يوماً وقال: "توقّفت المعاملات". قلت له: "هذا هو الصواب وأنا أعمل حسب القانون، أما أنت فلا تستعمل القانون بل تستعمل حقوقاً ليست لك. فدعنا نتفاهم. كل المعاملات يجب أن تصدر مني وأنت لك حق الرّفض. هذا هو النظام الدولي". وهكذا شعر الناس بأن للمحافظ العربي السوري كياناً وأن له الحق بذلك. وأصبحت أمشي في الأسواق فأستقبل بالتّصفيق. وأعجب الناس بالأعلام، فلم يكن في السابق لسيارة المحافظ علم ولا لبيته علم. وكان كل شيء للفرنسيين. وقد بقيت في المنصب من سنة 1936 إلى سنة 1938.

(01:28:30)
سرقة الآثار أيام الإنتداب – حادثة الكنيست اليهودي:

(01:28:30)
س ـ متى حدثت قصّة الكنيس اليهودي؟

ج ـ سبق وأخبرتكم بأني كنت المسؤول، أي الوزير المسؤول عن المعارف. ولم يكن للوزراء السابقين أي رأي. ومن الأمور التي حدثت موضوع الكنيس اليهودي. كانت دائرة الآثار تابعة لدائرة المعارف، ولما تسلّمت وزارة المعارف ُقدّّمت لي قرارات متعلّقة باختيار الفرنسيين لبعض الآثار من رومانية وغير ذلك لشرائها ونقلها إلى بلادهم. ومن جملة هذه الآثار الكنيس اليهودي. فقال لي وزير الآثار، الأمير جعفر الجزائري أن الفرنسيين دعوا أحدهم لاختيارها. قلت: "مَن اختارها"؟ قال: "أحد المستشارين". قلت: "وكيف للمستشار أن يختارها"؟ قال: "من باب الفن. لقد وافقنا نحن على المستشار. فهم يبقون في سوريا ما هو حسن". قلت له: " أنا لست بعالم أثري إنّما لا أتنازل عن الكنيس اليهودي". قال: "إختاروها وانتهى الأمر". قلت: "إذن لا أوقّع على القرار. إذا كان القرار يُنفّذ دون توقيعي، فلا مانع". قال: "كلاّ". قلت: "إذن بلّغ ذلك". فأتى المستشار وقال: "إنّ الأصول تقضي بأن تُعهد الآثار إلى المفوّضية الفرنسية وإلى علماء متخصّصين". قلت: "عندنا كثير من الآثار الرومانية والمتحف فيه أيضاً الكثير. أما كنائس يهودية فليس عندنا إلاّ هذا. فأنا أصرّ على إبقاء الكنيس اليهودي". ثمّ خابر المستشار المفوّضية وذهب إلى مستشار المفوّض السامي المختصّ بالآثار. ثمّ عاد مستشار المفوّضية إلى عندي ليقول: "إنّ هذا لا يصحّ". قلت له: "إني مصرّ على رأيي وأنا المسؤول والكنيس اليهودي ذو قيمة كبيرة، أما آثارنا الرومانية فكثيرة". وكان الكنيس عند الصالحية على الفرات. قال: "آسف أن أخبرك بأن الإختيار قد تمّ وقد أرسل قسم من الآثار المختارة في صناديق إلى أميركا لتشاد هناك". قلت له: "كيف تفعلون ذلك قبل توقيع وزير المعارف؟ إني مصرّ على رأيي". قال: "ما العمل؟ هل لديكم إختصاصيون لبناء مثل هذه الآثار"؟ قلت له: "أنتم أتيتم إلينا لكي تدرّبونا. على كل حال نستطيع أن نأتي بإختصاصي". وبعد إصرار عنيد وصلت إلى النتيجة التي أريدها. ففكّ القسم الذي كان قد هيء لشحنه. وكان قد أرسل حوالي 100 صندوق إلى أميركا فأرجعوها ثمّ أتوا بـ إيكوشار المشهور الآن عندكم بخصوص موضوع الكنيس. ولم تنقطع المفاوضات في أثناء ذلك، وبعد أن وجدوا كل هذا الإصرار قالوا لي: "كم تريد ثمن الكنيس وكم تريد أنت؟ باستطاعتنا أن نعطيك دون قيد ولا شرط". قلت لهم: "لا شيء". قالوا: "نعطي الحكومة خمسة ملايين ليرة ذهباً. فإنّكم بحاجة إلى المال". قلت لهم: "لا، ولو كان المبلغ خمسين مليوناً". كنت كلما رأيت إصراراً منهم وحرصاً على الدّفع تزداد قيمة الكنيس عندي. فلم أقبل بأي ثمن. وهكذا أتوا بالكنيس وأعادوا تركيبه. والآن يعدّ الكنيس اليهودي من أعظم الآثار وهو يعود إلى حوالي 5000 سنة. ويبدو كأنّه قد فرغ الدهّان والمعمار منه اليوم. كلّه قاعات كان يستخدمها اليهود منذ عهد ابراهيم وإسحاق. كما أنّ الحوادث التاريخية كلّها مصوّرة أجمل تصوير. هذه هي قصّة الكنيس اليهودي.

هذا عن منصب المحافظة، أما في وزارة المعارف فأستطيع القول أن النظام كان مفقوداً وخاصة بين الأساتذة، فمن خطر له أن يتغيّب عن المدرسة كان يتغيّب، إلى أن أصبح للوزارة كيانها. وقد شعر الناس بذلك أي شعور. غير أنني اضطررت أن أوظّف أشخاصاً لا يحملون شهادات على أمل أن يتدرّبوا فيتحسّنوا، فقد كنا بحاجة إلى معلّمين ولم يكن بدّ من ذلك فليس لدينا ما يكفي من المعلّمين. وكان المستشار السابق قد حصر هذه الأمور بيده، لذلك اضطررنا لعمل ما عملناه كي يتسنّى لنا التّوسّع. وعندما تمّ الإتّفاق الدولي مع فرنسا ومؤدّاه أن يضمّ لواء الإسكندرون إلى تركيا، كان كل أهالي إسكندرون يعلمون ما كان عليه المحافظ ولما كان عليه الأمر سابقاً.

(01:36:06)
ردّ الفعل على سلخ الاسكندرونة وضمّها لتركيا ووصوله الى رئاسة الوزراء:

(01:36:06)
س ـ كيف كان ردّ الفعل عند الشعب حين تمّ الإتّفاق؟:

ج ـ طبعاً كان العرب ضدّ هذا الإتّفاق. كان نصف السكان من العرب والنّصف الآخر من الأتراك. وقد أتت لجنة دولية من قبل عصبة الأمم مؤلّفة من سبع دول وأجرت استفتاء، فزنا فيه نحن. وقد سعيت أنا إلى ذلك مع ما هي عليه وسائطنا من قلّة، ومع ما هي عليه الحكومة من ضعف وفقر. فقد كانت نتيجة الإستفتاء ثلاثة وخمسين بالمئة لمصلحتنا وسبعة وأربعين بالمئة لصالح الأتراك.

(01:37:25)
س ـ كم هو عدد الأشخاص هناك؟

ج ـ كان عددهم حوالي 300 ألف شخص بين أتراك وعرب. كان خصومي يعتقدون أنني أنا الذي سلّم اللّواء. ولكن هل يُعقل أن يسلّم محافظ لواء بكامله؟ القصّة هي قصّة دولية. بعد ذلك أتى غيري من المحافظين فقد عيّنوا محافظاً فرنسياً واتّفقت الدول بعضها مع بعض وانتهى الأمر. لقد أتت اللّجنة الدّولية وربحنا نحن الإستفتاء ومع ذلك قضت مصلحة الدول الكبرى بعكس نتيجة الإستفتاء، فحلّت هي المشكلة بيدها، ومع كل هذا يقول الناس أنني أنا الذي سلّم اللّواء.

في سنة 1938، عدت إلى حماه، وكنت متزوّجاً بسيّدة من آل العظم من الشام وذلك قبل زواجي من السيدة نظيرة. وقد افترقنا في دمشق. ثم رجعت إلى حماه سنة 1938، كما سبق القول، وبقيت فيها إلى سنة 1941.

كان الشيخ فهد رئيساً للوزراء وقد عيّنني متصرّفاً في الشام فعدت إليها وبقيت في هذا المنصب عدة أشهر. منها جئت إلى رئاسة الوزارة كما بقيت في رئاسة الوزارة حوالي سنة ونصف السنة، أي إلى سنة 1943.

(01:41:16)
الإجتماع بالسيد كراين:

(01:41:16)
س ـ هل باستطاعتك أن تخبرنا بالحديث الذي دار بينك وبين كراين عندما قابلته وأنت رئيس للوفد؟

ج ـ قابلت المستر كرين باسم حزب العهد، وذلك عندما أتى إلى سوريا من أجل التّحقيق ليقف على رأي الشعب باسم حزب العهد. وقد قدّمنا له مذكّرة خطيّة ذكرنا فيها أن البلاد، في حال قبولها الإنتداب، تطلب بأكثريتها أميركا، وذلك لعدم وجود غايات استعمارية لأميركا. وإن لم تقبل أميركا فبريطانيا. أما فرنسا فالبلاد ترفضها رفضاً باتاً. ذلك ما اتّفقت عليه مع الحكومة آنذاك. وقد كان على رأس الحكومة رضا باشا الركابي. وقد حضر تلك المقابلة الأمير فيصل. أما نحن حزب العهد، فقد كنا ضدّ هذا الرأي، ذلك أننا رفضنا كلّ إنتداب. فالدول الكبرى سواء في نظرنا. وما رضينا من الإستقلال بديلاً. وقد قال لي المستر كرين إنه ليس لأميركا أي استعداد لقبول الإنتداب، فهي بعيدة عن هذه الفكرة. قلنا له إننا بالأساس لا نطلب الإنتداب. غير أنه سرعان ما دفعت خلافات الحرب بين الفرنسيين والملك فيصل. وقد كان بيني وبين مستر كرين حديث طويل.

(01:43:50)
س ـ هل هنالك اية أشياء خطيّة بينك وبينه؟

ج ـ قدّمت له مذكّرة خطيّة باسم الحزب ولكنه لم يعطني أي جواب. قال: "سآخذ هذه المذكرة وأقدّمها. أما أميركا فهي غير مستعدّة لذلك فالموضوع يعود في النهاية إلى ما يريده البلد". وقد دارت الأحاديث بيني وبينه وطال الأخذ والردّ. كان مستر كرين يدلي بأسبابه وكنت أدلي بدوري بالأسباب التي تدعونا إلى رفض قبول الإنتداب. ذلك أن الحرب انتهت ونحن في بداية نشأة أمّة وتكوين دولة فلا نريد ان نعرّضها إلى أي انتداب.

(01:44:45)
تولّيه منصب رئاسة الوزراء ووزارة الداخلية: الإستقلال الصوري والتعامل مع الإنكليز:

(01:44:45)
س ـ الرجاء أن تخبرنا عن الأوضاع والحوادث التي جرت في المدّة التي تسلّمت خلالها رئاسة الوزارة؟

ج ـ كلّفني برئاسة الوزارة رئيس الجمهورية الشيخ تاج الدين الحسني. ولم تكن الأحزاب في ذلك الوقت ظاهرة على المسرح السياسي وإنما كانت كتلاً كالكتلة الوطنية. غير أنه كان للشيوعيين دور قاموا به، كما هي الحال في جميع المراحل السياسية. وقد قبلت، نتيجة للمفاوضة بيني وبين الرئيس، أن أؤلّف الحكومة على أساس تأمين الإستقلال. لقد كنا في ذلك الوقت في حالة حرب. وكانت فرنسا قد انهزمت في ساحة القتال ضدّ الألمان وتسلّم الجنرال ديغول فئة المعارضة، أي كتلة الأحرار. وكان في سوريا الجنرال كولي. كنت قد قبلت الحكم على أساس ما صرّحه الإنكليز عندما وصلوا إلى سوريا بعد إنسحاب الأتراك بأنه لا غاية لهم في هذا البلد إلاّ تأمين الإستقلال، قاطعين بذلك عهداً لسوريا بتحقيق هذا الإستقلال. وقد رمت طائراتهم مناشير في هذا المعنى، وبطبيعة الحال وقع بعض هذه المناشير في لبنان. وهكذا أتيت إلى الحكم لتحقيق الإستقلال فعلاً وليس قولاً. فقد كنت أشعر وأنا خارج الحكم بأن الإستقلال لم يكن حقيقياً فالفرنسيون يتدخّلون بكل شيء، ولم أقبل الإشتراك بالحكم إلاّ على هذا الأساس. وقد شاركني رئيس الجمهورية الرأي بأن الوضع في سوريا لم يكن وضعاً إستقلالياً ولم يكن الوضع الذي وعد به الحلفاء، أي الأميركيون والإنكليز والفرنسيون.

ووجدت العمل شاقاً، فلا شيء ينفّذ فعلياً. وكان لرئيس الجمهورية علاقة شخصيّة بالجنرال كولي. والجنرال كولي، كما سبق القول، قديم العهد في سوريا فقد كان قائداً للحرس، كما كان خبيراً بشؤون سوريا وهو متخرّج من مدرسة الإستعمار. وكان رئيس الجمهورية متأثّراً به إلى حدٍّ بعيد. وأوّل مجابهة لي بهذا الخصوص كانت في حفلة الإستقلال. فقد كان رئيس الجمهورية مغرماً بالمظاهر في حين كنت أهتمّ بالجوهر لا بالقشور. وبعد أن وزّعت الدّعوات لحفلة الإستقلال باسمي بصفة كوني رئيساً للوزارة ووزيراً للداخليّة وأرسلتها إلى جميع الهيئات السّياسية، قلت للرئيس: "لا أريد أن أحضر الحفلة". قال: "لماذا"؟ قلت: "لأنني إذا حضرتها أريد أن ألقي خطاباً وأقول إنه لا يوجد أي إستقلال وإن هذا الإستقلال الذي نحتفل به هو استقلال كاذب. وسأقول للجنرال ولمفوّض فرنسا وغيرهما إنّهم قطعوا عهداً باستقلال هذا البلد وإن البريطانيين وزّعوا المنشورات بهذا الصّدد قبل دخولهم البلاد وعاهدوا أنفسهم على أنّهم سيؤمّنون للبلاد استقلالها. ومع ذلك فأنا اليوم رئيس وزارة ووزير للدّاخلية ولكنني لست أشعر بأية سلطة، لا على الشرطة ولا على الدّرك ولا حتى على أي وجه من وجوه الحكم. فلنحصل أولاً على إستقلال حقيقي ثمّ لنحتفل به". قال الرئيس: "أن تفعل ذلك تقتلني، بل تحطّمني". قلت: "إذن، فلن أحضر الحفلة إذن، إكراماً لك". قال: "ماذا سيقال؟ أتدعو إلى الإحتفال ولا تحضره"؟ قلت: "أقلّ ما سيقولونه عنّي أنني لا أعتقد بهذه الأمور، وسيكون لذلك مغزى سياسي. على كلّ حال، دعني أفعل ما أريد فلم يمضِ على تسلّمنا الحكم إلاّ شهر تقريباً". وبالفعل غادرت دمشق إلى لبنان ـ نحن معتادون على لبنان ـ وذهبنا إلى زحلة وأكلنا هناك. وأخذ الناس يتساءلون لماذا لم يحضر الوزير الجديد حفلة الإستقلال، وبطبيعة الحال فهموا أنني أريد أن ألقي خطاباً في الإحتفال ولكنني لا أستطيع الكلام والوضع على ما هو عليه. وبقينا بهذه المشادّة من جهة مع الفرنسويّي ومن جهة مع كاترو ومن جهة مع رئيس الجمهورية.

في تلك الأثناء قدم إلى سوريا المستر دانكل ساندس من أصحاب المراكز المهمّة في بريطانيا فهو صهر لتشرشل ووزير سابق في زمن الحرب. ودُعينا إلى القصر الجمهوري للإجتماع به. فسالت الرئيس قبل الإجتماع: "هل سيتطرّق الحديث إلى السياسة أثناء الزّيارة"؟ قال: "لا، بل هي زيارة مجاملة". فقلت له: "إن تطرّق الحديث إلى السياسة فلن أسكت". وبدأ الحديث الشيخ تاج الدين، وكان رجلاً ذكياً نبيهاً فلم يتكلّم بما يمكن الإعتراض عليه، غير أنني لم استطع السّكوت. قال له الشيخ تاج الدين: "ارجو أن تذكّر حماك المستر تشرشل بأنه لم يعترف بعد باستقلال سوريا ـ كانت الحجة البريطانية في عدم الإعتراف بالإستقلال أن الفرنسيين لا يزالون حاكمين ـ ثمّ قال له إن ّ للإنكليز علاقة قويّة بمصر والعراق فأرجو أن يوعز المستر تشرشل لهما بالإعتراف". هنا وجدت مجالاً للكلام، فقلت للمستر ساندس: "إنني بصفة كوني رئيساً للوزارة ووزيراً للداخلية والمسؤول عن هذا البلد وإني أرى رأي نور السّعيد والنحّاس فلا يوجد في هذا البلد إستقلال. أننا نطالب بريطانيا بتعهّداتها ونرجو منك على الأخصّ أن تطلب من المستر تشرشل أن يحافظ على شرف بريطانيا وعلى العهد الذي قطعته مع هذا البلد. إنّ هذا البلد يقدّر لكم العهد الذي قطعتموه من أجل استقلاله ويقدّر لكم العمل على إنقاذه. لذلك يجب أن تنفّذوا عهدكم. وكان المستر ساندس قد قال للشيخ تاج بان عندكم الجنرال سبيرز في سوريا ومعه حوالي 15 جنرالاً، وهو عضو في الشؤون البريطاني وهو صديقه وصديق حميه المستر تشرشل وصديق الملكة وباستطاعته أن يعمل على تنفيذ هذا العهد. إنني كما سبقت لك الرجل المسؤول عن هذا البلد وإني أرجو منك أن تحمل شكواي وشكوى هذا البلد". كنت أتكلّم معه وجهاً لوجه وبلّغته شكوانا على تشرشل فهو ممثّل بريطانيا وهو المسؤول عن العهد الذي قطعته بريطانيا مع هذا البلد وهو المسؤول عن شرفها. وواصلت الحديث معه قائلاً: "أقول لك يا مستر ساندس أن هذه البلاد عليها جنرال فرنسي، في حين أن فرنسا تحت الإحتلال النازي. إن الفرنسيين يطبّقون أساليب الإنتداب التي كانوا يتبعونها في عهدهم الأوّل معنا. فلا يفسحون المجال أمامنا لنشعر بالإستقلال وبأننا أصبحنا حكومة مستقلّة. لذلك نرجوك أن تبلّغ المستر تشرشل هذه الشكوى". وساد صمت طويل: رئيس الوزارة يتكلّم ضدّ رئيس الجمهورية ويخاطب الوزير البريطاني صهر تشرشل. وكان الوضع رهيباً. غير أن ساندس قام وقال لي: "أشكر هذه الصّراحة، وأؤكّد لك بأني سأحمل هذه الرسالة إلى عمي تشرشل وسوف يكون لها تأثير، فنحن لم نعلم بذلك". فقلت له: "أنا اليوم وزبر للداخلية، ومع هذا لا أستطيع أن أجعل الشّرطة أو الدّرك ينفّذون لي أمراً. فإن كنت ستبعث برسالة إلى المستر تشرشل فسيأخذ مستشار البريد الرسالة ولا يرسلها، فالبرقيات تحت المراقبة. إننا تحت انتداب وأكثر من إنتداب. عندما نحصل على استقلالنا الحقيقي فسيعترف نوري السّعيد والنحّاس باستقلالنا ولكن إذا سألاني الآن هل نحن مستقلّون فسأجيبهما بالنّفي، وسيقولان: "عندما يصبح استقلالكم نافذاً فنحن مستعدّان أن نعترف بكما". لذلك لا أستطيع أن أسألهما. وللحقيقة ليس من الضروري أن تكلّف تشرشل. فنحن أنفسنا يجب أن نعترف أولاً بالإستقلال. وهكذا افترقنا. وتوجّهنا إلى الفندق حيث أُعدّ للضيف مأدبة. كان من بين الحضور كولي وسبيرز وكاترو أي كانت السّلطتان الفرنسية والإنكليزية موجودتين. وبينما كنا هناك اقترب مني الجنرال سبيرز وقال لي: "لقد تهجّمت عليّ وحملت عليّ حملة شعواء". قلت له: "هكذا يتطلّب الموقف". قال: "أهنئك على هذا الإلهام الذي حدث لك". قلت له: "كيف تقول ذلك وأنت المسؤول عن كلّ ذلك"؟ قال: "أنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً ذلك إنهم لا يتركون المجال لي أما أنا شخصياً فمن رأيك".

(02:01:24)
س ـ مَن هم الذين لا يتركونه يفعل شيئاً؟

ج ـ الحكومة الإنكليزية نفسها. لم يكن الحلفاء قد احتلّوا المغرب بعد. عليهم أن يحتلّوا المغرب لكي يكونوا حلفاء بالحقيقة. أما نحن فلم نكن نعرف شيئاً. قال لي: "لهذا السبب لا أستطيع أن أفعل شيئاً". قلت له: "طالما الأمر كذلك دعني أقابل ساندس". قال: "لا أستطيع، فوقته ضيّق جداً يقاس بالساعات والدقائق. ورحلته مقتصرة على أركان الحرب من لندن ومن مصر". قلت له: "إلى أين سيذهب اليوم"؟ قال: "إلى بعلبك". قلت: "بالطائرة أم بالسيّارة"؟ قال: "بالسيارة". قلت: "إحجز لي معه في السيارة. فالمسافة من دمشق إلى بعلبك ساعة. ولكن يجب أن أذهب متنكّراً وليس بصفتي رئيساً للوزراء، فلن آخذ معي مرافقي ولن أذهب بسيارتي، بل أنتظره وأذهب معه، وأنتم تؤمّنون رجوعي سراً. فالفرنسيون إذا علموا بذلك سيُجنّون، كما أن رئيس الجمهورية لا شكّ لا يريد ذلك". قال: "سأحاول". قلت: "حاول موافقاً لا معاكساً". فذهب ثمّ عاد وقال: "إن ساندس موافق". وخرجت متنكّراً وانتظرته على الطريق أمام السّفارة البريطانية. وصعدت إلى جانبه في السيارة وذهبنا إلى بعلبك. وفي الطريق أخبرته بجميع التفاصيل. وقد تجاوب معي فعلاً، وقدّر موقفي وصار يعتذر وقال: "لم نعلم بكلّ هذا الوضع كما إنّه ليس لتشرشل علم بهذا التّحكم الفرنسي الّذي لا نقرّه لما قطعناه من عهد. أؤكّد لك إنني سأكتب إليك بعد أن أُبلغ عمّي ذلك". وقد كتب إليّ فيما بعد وأخبرني إنه أوصل الرّسالة وبلّغ الأمانة وسيكون لذلك تأثير إيجابي فعّال ـ

(02:04:47)
حرية التعبير والموقف من لبنان – قضية الميري:

ورجعنا من بعلبك وبعد ذلك احتدم الخلاف مع رئيس الجمهورية والفرنسيين.

(02:05:10)
س ـ وكيف كانت لك حريّة الكلام؟

ج ـ كانت حريّتي بالكلام محدودة جداً. فقد أرادوا في تلك الأثناء أن يعطوا الحريّة للصّحافة. وألّفوا نقابة لها. وهيأوا حفلة لها في سينما روكسي. وكانت حفلة حافلة ذلك أن رئيس الوزراء سيخطب فيها وكان ذلك أوّل خطاب لي. وقد حضّروا لي الخطاب على شكل رؤوس أقلام وهو يتعلّق بنقابة الصّحافة فقط. وكان في الحفلة الدكتور منير العجلاني، خطيب بنت رئيس الجمهورية، وكان وزير الشؤون الإجتماعية. وقد ألقى كلمته قبل كلمتي فتكلّم فتكلّم عن نقابة الصحافة وكان خطابه دعاية لعمّه الرئيس فقال: "إن الوزير ساندس أتى إلى سوريا وتكلم مع عمي من أجل الإعتراف بالإستقلال وإن الأمل كبير بالنسبة لنا". ثمّ صعدت المنبر وقلت لهم: "كان قد هُيء لي خطاب ولكنني سأضع الورقة في جيبي وأتكلّم شفاهة. وقد اضطرّني إلى ذلك زميلي الدكتور منير العجلاني وكان خطابه دعاية لعمه الرئيس. غير أن المسألة كلّها تأليف بتأليف، لذلك سأضطر وأخبركم كيف كان الحديث. إن ما قاله منير العجلاني عن الحديث وعن طلب رئيس الجمهورية منه أن تعترف بغداد ومصر بالإستقلال هو صحيح ولكنني كنت على خلاف معه في الرأي وقلت كذا وكذا للوزير بحضور رئيس الجمهورية وهكذا كان جوابه بكلّ صراحة، وقد أكملنا الحديث في طريقنا إلى بعلبك وأبديت له اعتراضي. وقلت أما نوري السعيد والنحّاس فأنا أؤمّن اعترافهما. والآن أقول لكم ما قلته للبريطاني وللفرنسيين أننا لسنا مستقلّين، لم نصل بعد إلى الإستقلال. لقد قطعوا عهداً لهذه الأمة بأن يعطوها الإستقلال غير أننا نريد استقلالاً فعلياً. أنا اليوم رئيس للوزراء ووزير للداخلية ولكنني لا أملك أدنى نفوذ على هذه الدوائر. إنّ فرنسا وراء هذا كله وهي التي تصنع قصص الإنتداب هذه. فليكن هذا الأمر معلوماً لديكم. أما بمناسبة تأليف نقابة الصحافة فأقول لكم ادعوا الزّعماء ورجال السّياسة للإتّفاق والتّضامن لتأمين هذا الإستقلال الذي مُنحناه ولم يُنفّذ بعد. أدعو لتأليف نقابة باسم نقابة الإستقلال والكرامة أيضاً". وقد كان في الحفلة حوالي 20 ألف شخص.وكان لهذا الخطاب تأثير عظيم على الناس. وبالإضافة إلى ذلك فقد اطّلع الناس على الوضع.

(02:09:58)
س ـ هل نشر الخطاب كلّه؟

ج ـ كلاّ. ولكن سمعه الناس وأخذوا يتداولونه. فالصحافة لا تستطيع نشره أو الكتابة عنه. على هذا الأساس توسّع الخلاف بيني وبين الفرنسيين. تشكّلت الميري وكنت رئيس مجلسها. وكانت أربع دول تمثّلها فقط: نحن ولبنان وبريطانيا وفرنسا. كان ممثّل لبنان الأستاذ فؤاد سعادة كان موظفاً في إحدى مديريات المالية كما كان يشتغل في الزراعة بالإضافة إلى كونه مهندساً زراعياً إنه رجل محترم مثقّف عالي النفس. وكان موقفه بموضوع الميرى كموقفي. كنت في ذلك الوقت متطرّفاً من أجل لبنان، في حين كان الفرنسون يعارضون فاندفعت لتأمين الحقوق اللاّزمة للبنان. وعندما مدّدت رئاستي لمجلس الميري كان أحمد الداعوق رئيساً للوزارة في لبنان ثمّ أتى بعده سامي الصّلح. وكنا على اتّصال بعضنا ببعض. سعيت لتأمين الإعاشة للبنان وكنت أقول في خطبي الرسمية وغير الرسمية أن لبنان قبل سوريا. وذلك أن الحالة فيه كانت صعبة، وخاصة بعد الحرب. فالرغيف علينا أن نقتسمه مع لبنان. وأنا أعتبر نفسي لبنانياً كما أعتبر نفسي سورياً. فليس هنالك لبناني وسوري. نحن شعب واحد في حكومتان. لذلك لا يجوز بأي وجه من الوجوه أن تحدث مجاعة في لبنان ونحن عندنا الحبوب. وقد حدثت بعض الخلافات حول هذا الموضوع. غير أنني أعتبر نفسي أنني قمت بواجبي تجاه لبنان. وقد قدّر الناس في عهد الشيخ بشارة الخوري هذا الموقف. وأوّل مَن قدّر ذلك ألفرد نقّاش وسامي الصلح. كانا عارفين بخدماتي للبنان. مع الأسف لم أعد أشعر لهذا التّقدير ولا بالواجبات التي على حكومات لبنان. هذا التّقصير ليس مقبولاً.

(02:14:18)
اشتداد الخلاف مع رئيس الجمهورية والفرنسيين وإقالته:

(02:14:18)
س ـ في خلال حكمك كنت على خلاف مع رئيس الجمهورية ومع الفرنسيين. فهل كنت تستند إلى أيّة قوّة؟

ج ـ كان الوزراء كلّهم بجانبي ما عدا منير العجلاني، طبعاً لأجل عمّه الرئيس. وكان الشعب كلّه معي. لأن خلافنا مع الرئيس ومع الفرنسيين لم يكن شخصياً. هذا وكنت في حزب العهد وكان الحزب قوياً مليئاً بالضباط. ثمّ إنني كنت في الكتلة الوطنية بل من مؤسّسيها. وبالإضافة إلى ذلك كان طلبي وطنياً معقولاً ولم يكن لينطوي على أي اعتداء. فقد قطع الحلفاء عهدهم بأن هذه البلاد أصبحت مستقلّة. فهل يعود الإنتداب إلى أوّل عهده وقد انهزمت فرنسا في الحرب؟ هذا لا يحتمله أي إنسان. كان رئيس الجمهورية، كما قلت سابقاً، لا يهتمّ بالجوهر، وكان لا يهمّه إلاّ المظهر في حين أنني كنت لا أهتمّ إلاّ بالأصل أما المظاهر فلا تهمّني.

وهكذا توسّع الخلاف ثمّ حدثت قضيّة الميرى. كان الفرنسيون يريدون وضع أيديهم على الميري بداعي أنني أمتلك قرى ومزارع كما أن أكثر الوزراء هم أصحاب أملاك وأراضي. وفجّر الفرنسيون لغمهم، فقالوا إن الحبوب ستباع بالسوق السوداء ولن تصل إلى الجيش الفرنسي ولا إلى الجيش الإنكليزي ولا إلى الجيش اللّبناني. لذلك يجب أن تأخذ الحبوب من الحكومة ولن نسمح لحسني البرازي وبقيّة الوزراء الإقطاعيين أن يستفيدوا. وأتى الجنرال سبيرز بناءاً على هذه الفكرة واجتمعت معه في السفارة. فقال لي: "أرجو إذا كان بالإمكان أن تترك الميرى لأنهم يريدون تسلّم الحبوب". عند ذلك اتّخذت تجاهه موقفاً قاسياً فقلت له: "لقد جئتم تساعدونا وأنا أذكّرك بالكلام الذي قلته للمستر ساندس وهو أنّكم أعطيتمونا كلام الشرف على أن تحافظوا على استقلالنا. والآن إنك بمساعدتك الفرنسيين تخالف العهد الذي قطعته حكومتك. هؤلاء (الفرنسيون) يريدون أن يخربوا البلاد وينهبوها ويأخذوا الحبوب بطريقة غير معقولة. ومعنى ذلك أنك تعترف لهم بعدم كفاءتنا للإستقلال وعجزنا عن إدارة هذه العملية ومعنى ذلك أنك تؤيّد اللّصوص". كان كلامي معه قاسياً حتى إنه قال لي: "حضرة الوزير، إنك نسيت أنني أمثّل الملك وأمثّل بريطانيا، إنك تمسّ كرامتي". قلت له: "ليست القضية قضية مسّ كرامة، إنما أردت تنبيهك أنهم سيوقعونك ويدنّسون شرف بريطانيا التي تمثّلها". قال لي: "ماذا تريدون أن أفعل"؟ قلت: "سآخذ الأمر على مسؤوليتي في خلال عشرة أيام أو أسبوعين على أعظم تقدير أنا أدير هذه العملية فكم تريدون من الحبوب"؟ قال: "المطلوب 250 ألف طن". قلت: "أستطيع تأمين ذلك ولكن مرهم بعدم التدخّل، وضع المسؤولية علي". قال: "ربما لا تستطيع تحقيق وعدك". قلت له: "عند ذلك أتقبّل كل لوم وكل مسؤولية. إنني سأثبت لك كلامي وأثبت لك أن الطريقة التي يريدون أن يتداولوا بها معك لا تتناسب مع كرامتك وكرامة بريطانيا". قال: "اتّفقنا". وفي اليوم التالي ذهبت في دورة تفتيشية. بدأنا من حوران، من درعا. كان الموسم خصباً ومن درعا ذهبنا إلى دمشق وحمص وحماه وحلب ودير الزور والقامشلي إلى آخر حدود سوريا. المئتان والخمسون ألف طن أصبحت ثلاثمئة ألف طن. ورجعت إلى دمشق. وكانوا ولا شكّ يتلقون الأخبار بالتليفون ونشرات الأخبار اليومية. أذكر أن رجوعي كان في يوم أحد فأتى مخصوص من بيروت إلى دمشق إلى عندي المستر ساندس وقال لي: "كما أتيت إليك سابقاً باسم الملك طالباً منك أن تترك الميري، جئت إليك الآن لأشكرك باسم صاحب الجلالة شكراً جزيلاً لأنك أثبتّ رجولتك وأثبتّ كفاءتك وأهليتك بالإستقلال وأرحتني من مشكلة أرادوا أن يوقعوني فيها بصدد هذا الموضوع. لذلك أتيت إلى حضرتك في يوم راحتي لأشكر لك جهودك باسم صاحب الجلالة"... كانوا يريدون أن ينهبوا...وحصلت هذه الحادثة من 25 سنة....

بعد ذلك أتى المندوبان الإنكليزي والفرنسي وعقدنا اجتماعاً في السرايا بخصوص الميرى. كنت قد أخبرتك بأن فؤاد سعادة كان مندوب لبنان وكان مطّلعاً على الأوضاع كلّها. وجمعنا محافظي الدولة كلّهم العشرة، وقائد الدرك والأمن العام والشّرطة. وأخذ كولي يتكلّم مع المحافظين قائلاً لهم إنّهم منقسمون بخصوص الميري ولذلك فسوف تذهب الحبوب هدراً. عند ذلك تدخّلت وقلت له: "إن المحافظين تابعين لوزير الداخلية. وأنا وزير الداخلية ورئيس الوزارة المسؤول، لذلك لا أسمح لك بأن توجّه أية كلمة للمحافظين. إنّهم يقومون بعملهم خير قيام وإني أقدّم شكري لهم وأنا سعيد بنتائجها وبأواخرها". وأذكر أن الجنرال كولي قال عند ذلك: "لنا الحقّ بالمشاركة".قلت له: "كلاّ، إننا مستقلّون واستقلالنا قطعي. وإذا لم يعجبك ذلك فافعل ما شئت". عندئذٍ غادر المكان وتبعه المندوبون الفرنسيون. ثمّ قام المندوب الإنكليزي وقال لي: "مبروك، ربحنم المعركة...يجب أن نرى سبيرز". وأتى سبيرز وانتهت القضيّة، وأمنّا الزراعة والصناعة وأصبحت الحركة قويّة في البلد.

وقد ذكرنا عتبنا على اللبنانيين الذين لم يقدّروا مساعدتنا لهم. الشعب اللّبناني ورجال لبنان كلّهم ما عدا القسم المخالف إلنا بالسياسة عاملونا بشكل جيد. المسيحيون هنا في لبنان شفنا منهم كلّ شرفية مثلاً شمعون والجميّل وإدّه، كل هل جماعات هوذي السياسيين المسيحيين، لكن مع الأسف نحن ضدّ عبد الناصر والإسلام هم بطبيعتهم كلّ أصدقائنا بيلحقوهم أنكرونا وأنكروا صداقتنا وعلاقتنا معهم وشفنا جفاء منهم لكن عتبي أنا على الحكومات والحكومة اللّبنانية كانت مقصّرة في حقي.

لما انتهت هذه القضية، كان الشيخ تاج مريضاً، فأخبروه بالتليفون عما حدث فاشتدّ مرضه وتحامل عليّ كما تحامل الفرنسيون. وأتى الفرنسيون وحاصروا البيت وقطعوا خط التليفون وأخذوا سيارة رئاسة الوزراء وأصدروا مرسوماً بإقالتي. فغادرت أنا وزوجتي إلى لبنان كان ذلك يوم أحد. فذهبنا إلى السان جورج ثم إلى حفلة سباق الخيل. وظنّ الناس إنه قد قتل حسني البرازي. وإذا بالشيخ تاج يموت. وكان يقول إنني أنا كنت السبب في مرضه الشديد. أما الحقيقة إنه أُعطي "سلفاتيازول" مع الحميرة فلم يناسبه وتسمّم ومات. وحمّلوني مسؤولية وفاته. وعدنا بنفس اليوم إلى الشام حيث زارني هشام الأتاسي وابراهيم هنانو وسعد الله الجابري ليخبروني بوفاته ـ كان الشيخ تاج ضدّهم وعلى الأخصّ ضدّ هاشم الأتاسي فقد كان ضدّه بشكل عنيف ـ وكانوا قد انتقدوني على اشتراكي معه مع أني كنت من مؤسّسي الكتلة الوطنية. غير انني اشتركت معه لكي أنقذ البلاد فانا رجل واقعي وإيجابي وأمين من وجداني وضميري بأن المنصب لا يغريني. فأنا أجرّب فقط فإذا نجحت التّجربة أكمل الطريق وإلاّ فأترك الوظيفة كما فعلت عندما كنت وزيراً للداخلية. عندما استقلنا بعد المفاوضات هدّدونا بالإعتقال ولكننا لم نرجع عن الإستقالة واعتقلونا. كذلك يوم الجمعية التأسيسية، فقد أردت أن نقبل المواد الستّ التي وضعها الفرنسيون في الدستور السوري. وعندما أردت أن أخطب، وعارضوني، كما سبق القول، رضخت لأوامرهم دون اقتناع. كلّ موقف إيجابي يأتي، أريد أن أستثمره، ليس لهدف شخصي بل لصالح البلد. عندما لم يقبلوا مني في الجمعية التأسيسية سنة 1926، حلّها الفرنسيون وأضاعت البلاد فرصة عظيمة وأخذ الزعماء السوريون يرددون: "يا ليتنا سمعنا من حسني البرازي". وقد تأخّرت البلاد من جراء موقفهم عشرين سنة ذهبت سدى في النزاعات والدماء وفي تأخر الزراعة والإقتصاد ـ زارني هاشم الأتاسي وابراهيم هنانو وسعد الله الجابري ليهنّؤوني بعد وفاة تاج الدين. فقال لي هاشم الأتاسي: "قلنا لك اضربه لأنه كان يقول لا أحد يقدر عليّ إلاّ حسني البرازي، قلنا لك اضربه ولم نقل اقتله".

وهكذا خرجنا من الحكم على هذا الشكل. ورفاقنا رفاق الكتلة الوطنية أظهروا قلّة وفاء نحوي ونحو الحقيقة. والظاهر أننا كنا أثناء الدّراسة قافلة واحدة وكنت أرجحهم كفّة. وكنت كذلك في الأعمال التي قمت بها، في الوظائف والوزارة، فقد كنت أثبت كرامتي وقوّتي وكانوا يخافون من قوّة شخصيّتي ورجحاني وأعتقد أن ذلك هو سبب عدم إخلاصهم لي.

(02:34:13)
دعوة الملك عبدالله ملك الأردن عام 1945 وبدء التداول بالقضية الفلسطينية – اليهودية:

وبقينا بعيدين عن الحكم إلى سنة 1945. في تلك السنة دعاني الملك عبد الله إلى عمان، الأردن. فأمضيت بعض الوقت عنده وبعضه الآخر في القدس حيث نزلت في أوتيل كينغ دايفد بضيافة الملك عبدالله. في تلك الأثناء قدم وفد دولي من الدول الغربية وكانت أكثرية الوفد من الأميركيين والإنكليز، ونزل الوفد في الفندق ذاته الذي نزلت فيه. وكان أفراد الوفد قد سمعوا بأن في الفندق رئيساً سابقاً للوزراء. وكان القصد من زيارتهم هو البحث في قضية فلسطين واليهود. في تلك الأثناء لم تكن قد تأسّست الدولة اليهودية بعد بل كانت هنالك مفاوضات وأبحاث واتّصل أعضاء الوفد بي طالبين مني إبداء رأيي بالموضوع. وكان رأيي غير سلبي. كنت أقول بعدم اللّجوء لخطط العنف والحرب وإنه يحسن قبول اتفاق التّفاهم مع اليهود ذلك إنّهم كانوا في ذلك الوقت أقليّة تتألّف من حوالي 50 إلى 60 ألف يهودي وكانوا يطالبون أن يؤلّفوا أقليّة في المجلس النيابي وأن يكون الحكم عربياً، فنصحت بالقبول وأن يعترف بحقوقهم على أنّهم طائفة أقليّة. هذا ما يطالب به الفدائيون اليوم. وقد أخبرتهم رأيي بصراحة وهو أننا إذا لجأنا إلى خطّة العنف فلن نصل إلى نتيجة، لأن العرب بوضعهم الحاضر متأخّرون علمياً وسياسياً وعسكرياً، فإذا سلكوا طريق الحرب فسينهزمون وستتغلّب عليهم إسرائيل. لذلك أرى أن يكونوا إيجابيين. فالإتّفاق مع اليهود وإعطاؤهم هذا الشكل المحدود من الحقوق أفضل من وصول اليهود إلى الكيان الدولي. وقد وصلت هذه التصاريح إلى بعض الإذاعات الإنكليزية والأميركية وانتشرت برقياً. وعندما وصلت إلى سوريا، عاتبني الإخوان والأصدقاء مثل شكري القوتلي وبعض رجال الحكم وقالوا لي: "كيف تتكلم مثل هذا الكلام"؟ فأجبتهم: "أنا اليوم لست بالرجل المسؤول وقد تكلّمت على مسؤوليتي وستثبت لكم الأيام صحّة كلامي وستثبت أيضاً سوء سلوككم في هذه النظرية التي اتّخذتموها لأجل إرضاء عامة الشعب إرضاء الغوغاء. أنتم لستم بزعماء. الزعيم هو الذي يسيّر الشارع ولا يسيّره الشارع والغوغاء. وهكذا حدث، ففي سنة 1948 وقعت الحرب وأعطت النتيجة المتوقّعة من وراء كوارثها. وكذلك كان لي الرأي ذاته في سنة 1956 وفي سنة 1967. لا يجوز الإنتقام بالحرب وها أنا الآن هنا في بيروت ورأيي لا يزال هو ذاته، وهو عدم اللّجوء للحرب. كما وإني أنصح للرّفقاء الّذين يزوروني بأن ينصحوا بدورهم للحكام عدم سلوك طريق الحرب.

أثناء الحرب الأخيرة في سنة 1967 أخذ الناس يدّخرون المؤن خوفاً من تزايد الإضطرابات. فقال لي أحد الرّفاق:"لماذا لم تتموّن؟" فأجبت: "أنا لم أدّخر مؤونة ولا أريد ذلك لأن الحرب لن تدوم أكثر من أسبوع". وهكذا كان إن ما حدث في البلاد هو مع الأسف نتيجة السّياسة السّلبية غير المعقولة.

(02:40:08)
إنقلاب حسني الزعيم واعتقال البرازي:

سنة 1949 بعد الحرب أتى حسني الزعيم... عندما كنت محافظ في اسكندرون كان حسني الزّعيم ضابطاً في الجيش وكان يتردّد عليّ كثيراً حتى تمتّنت الصّداقة بيننا وكنا نركب الخيل سوياً. كان ضابطاً نشيطاً ولكنه كان متهوّراً وطموحاً. في سنة 1936 قال لي: "أريد أن أقوم بانقلاب". قلت له: "أنت مجنون". أما هو فقد كان مصمّماً كلّ التّصميم على الإنقلاب على شكري القوّتلي وجماعته. وكان يطلب مني أن أتسلّم أنا الحكم. أما أنا فكنت دائماً أقول له إنني لا أريد حكماً يأتي عن طريقته هذه. وافترقنا. كان الحناوي أيضاً إلّي عمل الإنقلاب الثاني. الحناوي كان هنالك بإسكندرون كان كابتن وكان يجيبه لعندي للبيت. كان الحناوي ضخم الجسم وبسيط كثير وكان رجل غير مثقّف بينما كان حسني الزعيم أذكى وأقوى يرقّصه رقصة الدّبّ للحنّاوي.أنظري الى أي حدّ وصلنا. كان يقول له: إرفع إيدك، إرفع رجلك وكان يمتثل. وذهب هو إلى دير الزور ثم أتى إلى دمشق. كان كلما جئت إلى دمشق يزورني ويقول لي: "أريد أن أقوم بانقلاب". وكانت كلمتي له دائماً هي هي. عندما عُيّن رئيساً للأركان أتى إليّ وقال: "لقد أصبحت رئيساً للأركان، باستطاعتي الآن أن أقوم بالإنقلاب فالجيش معي". وكان لي نفس الرأي بذلك. ووقعت ذات مرّة بعض الحوادث في دمشق، فأعلنت الإدارة العرفية أي تسلّم الجيش الأمن. فأتى حسني الزعيم إليّ وقال: "لقد تسلّم الجيش الأمن، أي أصبحت الشرطة والدرك تابعين لي، وأصبح الإنقلاب وشيكاً، فماذا تقول"؟ قلت له:" أقول إنّك مجنون".

في ذات ليلة، أثناء وجودي في حماه، حلمت حلماً مزعجاً. كان شكري القوتلي داخل غرفة مظلمة وقد وقع طربوشه عن رأسه، وكان معه فارس الخوري. ورأيت عنكبوتاً وكان شكري القوتلي يقول: "أنقذني يا حسني". فقلت له: "أخرج من الغرفة ينته الأمر. ونهضت من النوم منزعجاً من الحلم. وأدرت جهاز الراديو وإذا بي أسمع بالإنقلاب. وفي اليوم التالي أتى إليّ بعض العسكريين وقالوا لي: "إنك مطلوب بأمر من الزعيم". فذهبت معهم وقابلت حسني الزعيم. فقال لي: "ماذا تقول الآن؟ لقد تسلّمت الحكم". قلت له: "مجنون". قال: "بعد أن حدث كلّ ذلك أما تزال تقول لي ذلك؟ على كل حال قمت بما قمت به وانتهى الأمر. أريد منك أن تتسلّم الحكم لأن اعتمادي عليك أما أنا فأبقى في الجيش ولا أتدخل بشيء. أما الآن فأريد منك أن تذهب إلى المنطقة الشمالية، أي إلى حلب واللاّذقية ودير الزور لمدة شهر ثمّ ترجع وتتسلّم الحكم. الحكم العسكري والمدني بيدك ولن أتدخّل بشيء". قلت له: "ولكنني لا أستطيع أن أتعامل مع مجانين". قال: "ماذا تريدني أن أفعل؟ إن كلّ اعتمادي عليك". ثمّ قام وقبّل يدي راجياً منّي أن أقبل. عندئذٍ رضخت للأمر. قال لي: "هذه طائرة عسكرية بخدمتك". ثم سافرت إلى حلب حيث كان استقبالي حافلاً، فأهالي حلب جميعهم يعرفونني.وأهالي حلب عائلات راقية بمسيحيّيها ومسلميها وحياتهم الإجتماعية راقية وفرحوا واستأنسوا بوصولي. وقد شعرت بالخير والأمل عند وصولي، رغماً عن الإنقلاب وما حدث من اضطرابات. وابتدأت العمل. وقد شعرت الناس بوجود إدارة جديدة مع قصر الوقت. أحسوا بالحزم والنزاهة والعدالة والنّظام، حكم قوي لكن رحوم.

وكان لزوجتي ولا شكّ الفضل الأكبر في ذلك فقد سهّلت الموضوع بواسطة زيارتها لبعض العائلات فكانت خير معين لي، ليس في حلب فقط بل في جميع أعمالي فقد ساعدتني على السرّاء والضرّاء. لذلك أقدّر لها أعمالها وأحترمها لمعاملتها الحسنة لي. فمع أنه مضى علينا حوالي 12 سنة مشرّدين فهي لم تغيّر معاملتها لي.

بعد مضي وقت على الإنقلاب بدأ الخصوم بدسّون عليّ عند حسني الزعيم وأخذوا يُدخلون في رأسه بأني قوي الشّخصيّة ولا بدّ أن أتغلّب عليه. وهكذا أخذوا يدسّون عليّ بشتّى الأساليب وأرسل لي يخبرني بذلك علمت أنها مجرّد دسائس. ثمّ أخذ يحاول التدخّل معي، مع أنّ الإتّفاق بيني وبينه كان ألاّ يتدخّل بشيء فقلت له: "لا أريدك أن تتدخّل بشيء ولا أسمح لأحد أن يتدخّل، وعند عودتي إلى دمشق إذا وجدتك قد غيّرت رأيك تجاهي فسأترك". وهكذا كان عندما رجعت إلى دمشق قال لي: "أيّة وظيفة تريدها"؟ قلت له: "لا شيء، أنا قلت لك إنك رجل مجنون والتّعامل معك صعب، فدعنا نبقى أصدقاء". واتّفقنا على ذلك، وذهبت إلى بيروت بصحبة زوجتي ونزلنا في فندق سان جورج. بعد وصولنا بحوالي نصف ساعة اتّصل بي الشيشكلي هاتفياً، وهو ابن عمّتي، وكان وقتئذٍ مديراً للأمن فقال لي: "أأنت في بيروت وحسني الزعيم يريدك أن تذهب إلى حماه"؟ قلت له: "لم يجرِ مثل هذا الكلام بيننا". فقال لي: "إذا لم ترجع فسيمنعك من الدخول إلى سوريا". فقلت له: "اعتبرني منذ الآن ممتنعاً عن الرجوع. انا أمنع نفسي". ثمّ صعدنا إلى بيت مري لقضاء الصيف. وإذا به يرسل رسولاً يطلب المصالحة. وأصرّ عليّ الرفاق أن أذهب فنزلت عند إصرارهم وذهبت إليه. قال لي: "لماذا أنت غضبان؟ سألتك أية وظيفة تريد، سواء أكانت إحدى السفارات أم الوزارات". قلت له: "أنا لست غضبان، لم أقبل وظيفة لكي نبقى أصدقاء فالعمل صعب معك ولا يزال رأيي بك كما كان. من الأفضل أن نبقى أصدقاء فلا نتعامل بعضنا مع بعض. وهكذا تمّ الإتفاق بيننا وتصافحنا.

لقد أدّيت لحسني الزعيم خدمات كثيرة عندما كنت في رئاسة الوزارة سنة 1936 ـ 1937 عندما كنت باسكندرون. فقد قطعوا عنه الراتب مرة فأرجعت له راتب التّقاعد. وكنت كلما وقع في ضيق أخدمه. وكان يقول لي قدّرني الله على مكافأتك وأخيراً شكّ بي. عندما كنا متصالحين وهي فترة لم أتعامل معه فيها، كان يرسل لي دائماً الرّسل طالباً أن أواجهه وأن أتسلّم سفارة من السفارات كسفير فوق العادة. وقامت في تلك الفترة مفاوضات بين الأميركيين والإنكليز فكان يرسل لي الرّسل طالباً مني الذّهاب من قبله على رأس وفد للتفاوض. غير أنني كنت أقول له إنني لا أريد أن أعمل. وأصرّ عليّ بعض الأصدقاء أن أذهب لأواجهه وقالوا إنني لن أخسر شيئاً. إلاّ زوجتي فقد كان حدسها ألاّ أذهب. قلت لها: "ولمَ لا، ما دمنا متصالحين، لن أتأخر وسأعود الى الغداء في حمانا" ولكنها لم تطمئن ولم تنم.

وذهبت لمقابلته، وأخبروه بقدومي. ولاحظت أنّ الجوّ غير طبيعي. وانتظرت حوالي نصف ساعة، ثمّ سمحوا لي بالدخول وكان مدير الأمن العامّ ابراهيم الحسيني واقفاً عند المدخل فقال لي: "تفضّل". قلت: "إلى أين"؟ قال: "إلى السجن، إلى المزّة. إنّها الأوامر". قلت له: "ولكن سبب مجيئي إلى هنا هو لمقابلة الرئيس". قال: "الرجاء ألاّ تمانع واعذرني على ذلك فهذه هي الأوامر". وطلبت أن أقابل الرئيس ولو لخمس دقائق. ولكن لم يُسمح لي. فذهبت إلى المزّة وهناك أدخلت زنزانة لا شبّاك لها ولا نور يدخلها وليس فيها إلاّ حصيرة ووسادة من قشّ. وبقيت هناك ثلاثة أيام وفي صباح اليوم الثالث سمعت بأن حسني الزعيم قد قُتل هو ومحسن البرازي ابن عمي وكان آنذاك رئيساً للوزارة.

كان ابن عمي مع الأسف من الأشخاص الذين احتضنتهم. وقد أدخلته الجامعة وأصبح أستاذاً في المعارف وهو يحمل شهادة الدكتوراه في الحقوق. ولما كنت وزيراً للمعارف في سنة 1935 كان يعتبر نفسه هو الوزير لأنه ابن عمي وصديقي.

وكان أخو زوجتي في السجن كذلك لأنه أراد أن يدقّق في قضيّتي وعندما قُتل حسني الزّعيم كنت في زنزانة وأخو زوجتي في زنزانة أخرى. وقد ذهبت وفود من لبنان ومن بينهم سامي الصلح ليتداولوا بالأمر. وكانت النتيجة أن حسني الزعيم طلب إعدامي وقد اتُّهمت بأني أدبّر انقلاباً. فالطائرات ستأتي من العراق أما أنا فسأذهب إلى دمشق ثم تأتي قوّة من الجيش العراقي وتقوم بالإنقلاب عليه. وعلى هذا الأساس كان يُقال إنه ما دام حسني البرازي حياً فستبقى الحالة صعبة مستحيل ترتاح. إجا بدّه يكافئني هل مكافأة، ألله انتقم منه ومع الأسف ابن عمّنا راح بهل شكل المؤلم رحمهما الله.

(03:00:17)
إنقلاب الحنّاوي:

(03:00:17)
س ـ وحضرتك طلعت من الحبس؟

ج ـ أنا كنت بالزنزانة بسجن المزّة وكانت تضيق عليّ وهو فكّر أن يجعلني عبرة للناس إنه يقضي على حياتي.

(03:01:40)
س ـ مَن الذي كان يؤثّر عليه إلى هذه الدرجة طالما كنتما صديقين؟

ج ـ كان خفيف الأعصاب أعصابه ضعيفة، وكان كما قلت سابقاً مصروعاً. والدّليل على ذلك تصرّفاته معي لما كنت في اسكندرون. أما الذين كانوا يؤثّرون عليه فهم أولئك الذين كانوا يحيطون به مثل صبري العسلي وهو من رفاقنا الأوّلين من أجل الحرص على الكرسي ومحسن البرازي ابن عمي. في نزيه الخنسى هذا كان عديله فقد كان معه دائماً لأنه كان رئيس وزرائه ثم مخائيليان من حلب.

(03:02:21)
س ـ مَن الذي أخبرك أولاً بمقتل الزّعيم؟

ج ـ كنت في الزنزانة في سجن المزة وكانت الحالة من الصّعوبة إلى حدّ أنني لم أستطع النوم. سهران على حصير وعلى مخدّة قش بشكل متعب. وعند الفجر وبينما كنت أطالع القرآن سمعت صوت الرّصاص بجانب السجن متريليوز، كان الوضع أيام حسني الزعيم مضطرباً وكان من المنتظر وقوع إنقلاب عليه هذا ما كنا نسمعه من الناس، خصوصاً عندما كنت في لبنان كنا نسمع إنه في وضع مضطرب.

(03:03:32)
س ـ مَن الذي قام بهذه العملية؟

ج ـ الضباط أنفسهم، وكان من بينهم الحنّاوي، فهو الذي جمع الضباط للقيام بانقلاب على حسني الزعيم. وعندما سمعت الرّصاص توقّعت أن الإنقلاب قد حدث ولكنني لم أعرف شيئاً من التّفاصيل. ثمّ أتى أحد السّجناء وهو صحفي كان مُعتقل يدعى أمين السّعيد، وأخبرني شعراً بالإنقلاب ذلك لأن التكلّم كان محضوراً على السجناء خصوصاً لوجودي في الزنزانة. وبعد مضي ساعتين أتى الضباط الذين قاموا بالإنقلاب إلى السجن. وكان من بينهم العقيد محمد معروف الذي أبلغني بإطلاق سراحي، وكان من بنهم أيضاً الحناوي الذي تكلمنا عنه سابقاً ... وخرجت من السجن. في ذلك الوقت كانت الإنتخابات قد قربت. كان الحناوي هادىء الطبع مع أنه لم يفهم الكثير من الأمور السياسية. غير أنه لم يكن هو الذي قام مباشرة بالإنقلاب بل ضباط آخرون منهم محمد معروف، الذي كان متقرّباً من جماعة حزب الشّعب. وكان حزب الشعب معارضاً للحكم أيام شكري القوتلي. فمع أنّ الحالة في عهد شكري القوتلي كانت حسنة من حيث الزراعة والإقتصاد والتجارة فقد كانت سيّئة من حيث السياسة وكان العهد عهد اضطرابات، لا سلم فيه ولا تنظيم. فالإدارة كلّها كانت فوضى غير منظّمة. وكان حزب الشعب معارضاً. وقد تقرّب الحناوي كونه حلبي من أفراد حزب الشعب واتّفق معهم وربّما كانوا على علاقة مع الضباط الذين قاموا بالإنقلاب. وقد تمّ الإتّفاق فيما بينهم وعيّنوا حكومة برئاسة رشدي الكيخا الذي تسلّم أيضاً وزارة الداخلية. وما أن تألّفت الحكومة حتى قرّروا إجراء إنتخابات نيابية واتّفقوا مع الحناوي على أن يعتني بالمجلس ويترك الجيش السياسة. ولكن كله كلام فما إن يذوق الجيش الحكم في السياسة حتى يتمسك بها ولا يتركها. وفي الإنتخابات عرف الضباط علاقتي بحسني الزعيم وما كان الإتّفاق معه عندما تسلّمت الحكم، كما عرفوا شدّة فراسي واعتقادي بوجوب إبعاد الجيش عن السياسة.

(03:09:00)
العلاقة بأكرم الحوراني وحزب البعث العربي الإشتراكي – بروز أديب الشيشكلي:

وكان أكرم الحوراني من بين الذين اتّفق معهم على إجراء الإنقلاب. وقد اشترك بالإنقلاب على حسني الزعيم مع أنه كان على اتّفاق مع شكري القوتلي. وقد كان هذا الأخير يوليه العناية خوفاً منه ومن دسائسه ولكن ذلك لم يجده نفعاً فقد تآمر على القوتلي وأصبح المستشار السياسي لحسني الزعيم. غير أنه لم يعلم ما كان بيني وبين حسني الزعيم من رابطة. فعندما استدعاني حسني الزعيم ملحاً عليّ بمقابلته طلب من أكرم الحوراني ألاّ يتدخّل معي. ذلك أنه كان هنالك خصومة بيني وبين أكرم الحوراني. غير أنه بقي يحرّض، مع أنه ابتعد نوعاً ما عن حسني الزعيم. هذا ولما وقع الإنقلاب على حسني الزعيم، كان أكرم الحوراني على اتّصال ووفاق مع الإنقلابيين. وكان له في جميع الإنقلابات التي وقعت اليد الطولى. فهو رجل إنقلابي مضرّ مؤذي يستند دائماً إلى الجيش والقوة العسكرية، وصولي يعمل كلّ ما بوسعه لأجل الوصول إلى الحكم. دون أن يهتمّ بمصلحة البلد.

(03:12:04)
س ـ هل كان ينتمي إلى حزب الشعب؟

ج ـ كلاّ إنما كان منتمياً إلى الحزب الإشتراكي. إنّه بالأساس فوضوي... شيوعي... ذلك لأنه يحب الفوضى والخراب والدمار. وأخيراً اتّفق مع جماعة البعث جماعة صلاح البيطار وميشال عفلق وسمّى الحزب حزب البعث العربي الإشتراكي.

وفزت بالإنتخابات وأتيت إلى المجلس ولكن قبل أن جرت الإنقلابات حاولوا محاربتي بتحريض من أكرم الحوراني والضباط الإنقلابيين. فقد أرسلوا أحد الضباط واسمه سليمان ناجي إلى حماه ثمّ ألحقوه بأديب الشيشكلي الذي كان مديراً للأمن العام، وأديب الشيشكلي هو ابن عمّتي ولكنه زميل لأكرم الحوراني ورفيق له. منذ الصغر يتّفق معه بشعوره الفوضوي ويفضلون التهديم والإرهاب وبما يسمونه الإشتراكية. في حين إنهما وكل من يدّعي الإشتراكية في سوريا بعيدون كلّ البعد عن الإشتراكية، لأنهم إلى الآن لا يعلمون ما هي الإشتراكية. فالشيوعي يدّعي إنه إشتراكي والفوضوي يسمّي نفسه إشتراكياً. إنّ الإشتراكية كلمة تُستعمل للتّغطية والإستغلال. لقد حاربوني في حماه حرباً شعواء كي لا أصل إلى المجلس النيابي ولكنني كنت متهيئاً لجميع وسائل التّهديد والوعيد التي جوبهت بها لإنسحابي وقد وصلت لدرجة التّهديد بالإغتيال ولكنني بقيت مصراً على موقفي إلى أن وصلت إلى المجلس النيابي. وفي المجلس كان موقفي ضدّ العسكريين كما كان سابقاً. وكان المجلس قد انتُخب لكي يكون بمثابة جمعية تأسيسية لسنّ القانون الأساسي للبلاد. (بُدىء ببحث هذا القانون الأساسي سنة 1928) وقد سار المجلس بهذا العمل إلى أن قام أديب الشيشكلي بانقلابه على الحناوي.

وكان أديب الشيشكلي قد اشترك في السابق بالإنقلاب على حسني الزعيم، كما كان قد اشترك بالإنقلاب على شكري القوتلي. وها هو الآن يقوم بانقلاب على الحناوي بالإشتراك مع أكرم الحوراني، فقاما بهذه العملية الأخيرة معاً واقتيد الحناوي ومن كان معه من الضباط إلى السجن حيث قضوا بضعة أشهر أُخرجوا بعدها من البلاد. فأتى الحناوي إلى رأس بيروت حيث قتله ابن عمي أنا اسمه حرشو البرازي ثأراً لمحسن البرازي، الذي قُتل على أثر إنقلاب الحنّاوي فاعتبر الحناوي إنه هو الذي قتل محسناً فثأر له حرشو، ثمّ قُبض على حرشو ووُضع السجن. وبالحقيقة ليس للحناوي أية علاقة بمقتل محسن كل ما في الأمر أن الحناوي وُضعَ واجهة في الإنقلاب. أما المحرّض الحقيقي على قتل محسن فهو أكرم الحوراني. وذلك أنهم أخذوا محسن من بيته بلباس النوم أخذوا معه ابنه خالد، وكان له من العمر حوالي عشر سنوات واتّجهوا بهما إلى بيت أكرم الحوراني وهناك رُتّبت عملية قتله.

(03:19:02)
س ـ لماذا أخذوا ابنه الصغير معه؟

ج ـ في ذلك الوقت كانوا يأخذون مَن يجدون في البيت ولم يكن في البيت إلاّ ابنه الصغير أما زوجه فكانت قد توفيت. وقد أرجعوا الولد إلى البيت بعد أن قتلوا أباه أمامه.

(03:19:33)
س ـ هل الولد ما يزال على قيد الحياة؟

ج ـ نعم، واسمه خالد البرازي.

(03:19:39)
س ـ أين تلقّى علومه؟

ج ـ درس في فرنسا ولكنه لم يكمل دروسه. غير أنه ذكي ولغته الفرنسية قوية لأن والدته فرنسية.

(03:20:07)
تحرّكاته كنائب بعد الإنقلاب – علاقته بخالد العظم وتعيين أديب الشيشكلي:

وبعد الإنقلاب على الحناوي ومقتله أصبح أديب الشيشكلي رأس الضباط.

(03:20:09)
س ـ بصفة كونك نائباً ماذا فعلت بعد الإنقلاب؟

ج ـ بقي المجلس على ما كان عليه في عهد الحناوي. ثمّ أصبح أديب الشيشكلي معاوناً لرئيس الأركان، وأتوا بضابط يدعى فوزي سلو (رئيساً للأركان) وكان هذا الضابط ضعيف الإرادة والكرامة وعديم الشئمة. أتوا به لأنه برتبة لواء. وكان موقفي في المجلس النيابي موقف المعارض للدكتاتورية وللحكم العسكري. واستمرّ أديب الشيشكلي في طغيانه وتدخّلاته بالشؤون العسكرية إلى أن أقدم على حلّ المجلس النيابي. حُلّ المجلس النيابي. كان أديب الشيشكلي، قبل ذلك معاوناً لرئيس الأركان وكان رئيس الوزارة خالد العظم. أما رئيس الجمهورية فكان المرحوم هاشم الأتاسي. في ذلك الوقت قام بزيارة سوريا المسيو تريغفيلي، الأمين العام للأمم المتّحدة، وهو أوّل أمين عام للأمم المتّحدة وقد دعته الحكومة السورية لزيارة البلاد وفي أثناء الحفلة الرسمية الّتي أُقيمت له في دمشق ترك رئيس الجمهوري وخالد العظم ووزير المالية عبد الرحمن العظم الضيف وتوجّهوا إلى قاعة مجلس الوزراء. فاقتربت منهم وسألتهم عن سبب تركهم الضيف فأجابني خالد العظم: "نريد إصدار قرار". فقلت: "أي قرار"؟ قال: "سننصّب أديب الشيشكلي رئيساً للأركان". أما أنا فقد كنت ضدّ أديب الشيشكلي وذلك لأنه كان يتدخّل بالشؤون السياسية وهو لا يزال معاون رئيس الأركان، فكيف إذا ما أصبح رئيساً للأركان؟ هذا وقد كنت أعرف عنه أشياء كثيرة لم يكن خالد العظم يعرفها. فقلت له: "ولكن هذه عملية جنائية. فحذار أن تفعل ذلك. هذا الرجل يقوم بدور خطير الآن فماذا ستكون حاله عندما تفسحون له المجال أكثر من ذلك؟ سيصبح دكتاتوراً مضراً مؤذياً يُدخل الجيش بالسياسة بطريقة تؤدّي إلى تخريب البلاد". وقد كنت بالأساس من قديم ضدّ خالد العظم لأنه سيّء النيّة متكبّر فارغ وكنت أقول له: "أسد عليّ وفي الحروب نعامة". لقد كنت عدوّه السياسي.

وذات مرّة جرت لي قصّة طريفة مع المرحوم هاشم الأتاسي. فقد حدثت أزمة وزارية في سوريا وطال أمرها حتّى مضى عليها حوالي أسبوعين دون أن يقدر هاشم الأتاسي على حلّها. وقد استدعى الكتل النيابية جميعها ومن بينها كتلة أكرم الحوراني التي كانت تتألّف منه ومن نائبين آخرين. أما أنا فقد كنت رئيساً للكتلة المستقلّين التي كانت تضمّ حوالي 25 نائباً ومع ذلك لم يستدعني. فاستغربت الأمر واتّصلت به هاتفياً وقلت له: "أنت لم تستدعني ولكنّي دعوت نفسي. لماذا لم تستدعني"؟ قال: "أعتبرك أخ لي وإبن لي". قلت له: "هذا لا يتعلّق بذلك. لقد دعوت أكرم الحوراني ومعه نائبان". فسألني قائلاً: "ما رأيك أنت؟ مَن أكلّف"؟ قلت له: "مصطفى اللّبن". قال: "لا يوجد نائب بهذا الأسم". قلت له: "سأخبرك بقصة حدثت معنا في حماه وستعرف من هو مصطفى اللّبن. وأخذت أسرد له القصة. قلت: يُحكى أن شخصاً يدعى مصطفى اللّبن أحبّه شخص آخر يدعى أحمد بكران محبّة حميمة أكثر من العادة، حتّى أصبحت مدار قيل وقال بين الناس إلى درجة أنه لم يعد أحمد بكران يستطيع أن ينام في بيته لكثرة ما كان الناس يتكلّمون. ثمّ أن أهل أحمد بكران ألحّوا عليه بأن يزوّجوه فمانع في البدء ثمّ رضخ للأمر بعد إلحاحهم الشديد. وأخذوا يفتّشون له عن فتاة تناسبه، وكان كلّما وجدوا له فتاة مناسبة يرفضها. واستمروا على هذه الحال ما يقارب العشرين يوماً. أخيراً قال له أخوه: "لقد فضحتنا برفضك أكثر مما كنت فاضحنا. أعطيناك أوصاف مئتي فتاة تقريباً، فلم تقبل بواحدة منهنّ. أنا أعرف مَن تريد". قال: "مَن". قال له أخوه: " مصطفى اللّبن". فقال لي المرحوم هاشم الأتاسي: "مَن هو مصطفى اللبن بالنسبة لي"؟ قلت له: "خالد العظم". قال: "أنت ضدّه وهذا هو السبب الذي يحول دون حلّ الأزمة". أنا كنت عنيف على خالد العظم وما أعتقد في سوء النيّة وسوء العمل والغطرسة ثمّ أنا وإياه مختلفين على موضوع لبنان هو يفتخر إنّه عدوّه الأول عدوّه رقم واحد يفاخر فيها وأنا عكسه تماماً بعدّ لبنان وسوريا شعب واحد وما في بلد ينسجم مع لبنان ومصلحته مصلحة لبنان وأخين وشعب واحد مثل لبنان وسورية. المصاهرات الدراسة مثلاً التلاميذ والجامعات والمستشفيات والأطباء والعائلات مختلطة ببعض ثمّ المصلحة الوطنية والقومية تقضي إنه إقتصادياً وتجارياً وسياسياً إنه مع بعضهم هذا بساعد هذا. فخالد العظم كان بهذا المعنى يفاخر بالعكس وأنا ضدّه وفي غير أسباب كذلك تتعلّق بالعمل الإداري والسياسي على خلاف معه. لمّا قال لي أنت ضدّه قلت: "لا، أنا لست ضدّ خالد العظم شخصياً، ولكنني ضدّ أعماله وتصرّفاته. فثقتك به إلى هذا الحدّ في غير محلّها. إنه قليل الإخلاص والوفاء، لا يعرف المودّة والوفاء. أنت بتندم". قال لي: "أرجوك، لا تتكلّم عنه هكذا أمامي ليس إكراماً لي بل إكراماً لعلاقتنا بعضنا مع بعض". قلت له: "أتريدني أن أسير معه"؟ قال: "أرجوك". قلت:"سأفعل من أجلك أنت ولكني لست مقتنعاً بذلك". وهذا ما حدث، وتألّفت الوزارة حالاً وعلى رأسها خالد العظم. في أثناء ذلك أتى تريفيلي السكرتير العام لهيئة الأمم المتّحدة. وكان أديب الشيشكلي في تلك الأثناء معاوناً لرئيس الأركان، ولكننا كنا نشعر ونحن في المجلس بأنه رجل متداخل خبيث، عديم الشعور. من رأيه أن يتدخّل الجيش في الحكم. وكان أكرم الحوراني ورفاقه يوافقون على ذلك. فلما أخبرني خالد العظم بأنه سيصدر قراراً بتعيين أديب الشيشكلي رئيساً للأركان نهيته عن ذلك وقلت له إنها عملية إجراميّة فقال لي: "كلاّ، لقد تحسّن عمّا كان من قبل". وهكذا أصدروا القرار وأصبح الشيشكلي رئيساً للأركان. وزاد في تدخّل الجيش في الحكم وأخذ خالد العظم يغيّر معاملته مع هاشم الأتاسي منذ اليوم الثاني من إعلان القرار، فأصبح إذا عقد مجلس الوزراء في القصر الجمهوري لا يشترك خالد العظم بالمجلس لأنه برئاسة هاشم الأتاسي. وكانت العادة إنه إذا سافر رئيس الوزراء يقضي الواجب عليه أن يذهب غلى رئيس الجمهورية لتلقّي المعلومات منه. أما خالد العظم فأصبح إذا سافر لا يفعل ذلك. كان يعتمد ما يمسّ بكرامة الرئيس وشعرت بالأمر، واجتمعت ذات مرّة بالرئيس هاشم الأتاسي فقلت له: "إننا نسمع قصص خالد العظم معك". قال: "بالحقيقة كان الحقّ معك وأنا أشعر بالندم ومثل ما كنت توصفه أنت ما كان رجل طيّب ولا ذو أخلاق حسنة ولا ذو وفاء". قلت له: "إذن أنا في حلّ من تعهّدي وأريد أن آخذ حريّتي". قال لي: "معك". وكان عندي في ذلك الوقت جريدة اسمها جريدة الناس وكانت تنشر المقالات التاريخية عن الخلافات السياسية التي كانت تحدث. فكتبت في الجريدة مقالاً بعنوان "مصطفى اللّبن" ذكرت فيه الحادثة التي جرت بيني وبين المرحوم هاشم الأتاسي وذكرت رأيي بخالد العظم. ثمّ إنّ الخلاف احتدم بين المجلس النيابي والشيشكلي. وتألّفت وزارة جديدة كان فيها حزب الشعب مهيمناً على الوزارة فقد كانت أكثرية المجلس النيابي مع حزب الشعب كما كان رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي معه أيضاً كذلك كانت كتلة المستقلّين. وهكذا كانت قوّة حزب الشعب مهيأة لإظهار القوّة. ولكن مع الأسف كان المسيطرون على حزب الشعب جبناء رشدي الكيخا وناظم القدسي واحد منهم رئيس المجلس النيابي والآخر رئيس وزارة. الوزراء منهم الأكثرية وهم كانوا في خوف دائم من أكرم الحوراني، يراعونه ويسايرونه لمساندة الجيش وأديب الشيشكلي له ويحرّضونه وهو لا يحتاج لتحريض فقد كان ثعبان أرقم يريد الأذى للبلاد. وتألّفت الوزارة برئاسة معروف الدّواليبي.

(03:37:43)
إنقلاب أديب الشيشكلي وإعادة اعتقال البرازي:

أنا لم أدخل في الوزارة لأن حزب الشعب كان يعلم بأنني ضدّ تدخّل الجيش في السياسة في حين أن الحزب كان لا يستطيع مجابهة الجيش بل يرغب بتسيير الأمور بالمسايرة والخوف والخضوع. فاصبحت أنا المحور في معارضة تدخّل الجيش وكنت أنا والكتلة التي أنتمي إليها متّفقاً مع حزب الشعب على ألاّ يكون وزير الدفاع من الجيش بل مدنياً وأن يبتعد الجيش عن السياسة.

وعندما تألّفت الوزارة شعر الشيشكلي بأنها تألّفت دون استشارته. فأخذ يهيّء لإنقلاب. يومها كان خالد البرازي الذي تكلمنا عنه يعقد زواجه وكنت أنا محتضنه كما احتضنت أباه فحضّرنا له في البيت حفلة كبيرة وكنا منشغلين. وفي اللّيل أتو واعتقلوا رئيس المجلس النيابي ومعهما عشرة نواب تقريباً وكنت أنا من بينهم. ذلك لأن الشيشكلي كان يعرف على أني على رأس المعارضين لتدخّل الجيش. أخذونا ليلاً من بيوتنا ونحن بثياب النوم إلى سجن المزّة، ثمّ أخذوا رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي إلى حمص تحت الحفظ. كنت دائماً أوجّه النّصح لحزب الشعب، كما كنت أنصح لخالد العظم، محذّراً من أديب الشيشكلي. كنت أنصح للحزب أن يوقف الجيش عن التدخّل بالسياسة، وكان الأمر في البدء فالضباط الإنقلابيون محدودو العدد وكان إيقافهم عند حدّهم لا يحتاج إلاّ إلى حكم قوي حازم يجرّدهم من ثيابهم العسكرية ويلقيهم خارج الحدود فينتهي الأمر. ولكن رشدي الكيخا رئيس حزب الشعب وناظم القدسي رفيقه كانا من الجبناء، يريد أن تسير الأمور بالمسايرة لأن ذلك هو الطريق الأسلم والأنفع بالنسبة لهما. وكنت أقول لهما: "إنّ رأيي أثبت العكس. فإذا لم يكن في حزب الشعب أشخاص ذوو شجاعة كافية فلأتسلّم أنا الأمر. وأعدكما أنه في خلال أسبوع ينتهي كل شيء".وبطبيعة الحال كانا يرفضان هذا الرأي. وبقينا في السجن ثلاثة أشهر. وفي تلك الأثناء كان الشيشكلي يرسل لنا الرسل كنا بمطار مزّة العسكري كنا حوالي 20 شخص وزراء ونواب. جاء وفد نيابي وقال يبلّغوننا إنه سيخرجنا من السجن إذا كنا نوافق على استقالة الوزارة. وقد قبل رفاقي العرض معروف الدواليبي ناظم القدسي رشدي الكيخيا وهل جماعات من حزب الشعب. أما أنا فاعترضت وكانت الحراسة علينا مشدّدة فكل منا كان خلفه ضابط مسلّح. واتى وفد نيابي إلينا فقلت لهم: "ألا ترون هذا الوضع؟ من رأيي أن نؤخذ إلى المجلس النيابي وهناك يُبحث الأمر". وكان في الوفد مَن هو بارع في الحديث كالشيخ مصطفى السّواعي وأشخاص آخرين كانوا يُظهروا عنتريّات في المجلس النيابي قلت لهم: "هذا وقت العنتريّات الآن بأية طريقة تطلبون منا أن تستقيل الحكومة. أنا لست عضواً في الحكومة ولكن أليس من العار أن تطلبوا رأينا وكلّ واحد منا وراه مترليوز مصوّب فوق رأسنا ويطلبوا رأينا؟ هذا يدلّ على عدم كرامة". ولم يتجرأ الباقون من الوفد على أن يطلبوا منا الإستقالة. وذهبوا وأبلغوا الشيشكلي بما حدث قائلين له: "طالما ابن خالك حسني البرازي معهم يستحيل أن يُقدموا على أي عمل". أتوا عندي وقالوا يريد ابن عمتك أن يراك وأخذوني وبالطريق عرّجوا على المزة فعرفت انا. هكذا كافأني الشيشكلي. أرسلني إلى الزنزانة في سجن المزّة. وبقيت في المزّة خمسة عشر يوماً. وأتوا بالمسجونين بسجن المطار الى سجن المزة وبقينا سوياً ولكن أحداً منا لم يستقل حتى انتهت القصّة. ولم نخرج من السجن إلاّ عندما حُلّ المجلس النيابي.

(03:47:16)
أيام السجن:

(03:47:16)
س ـ الرجاء أن تخبرنا ببعض الأمور التي كانت تجري بينكم في السجن.

ج ـ كان أديب الشيشكلي يتّصل بالأقرباء الذين كانوا يزورونه من حين غلى آخر ليتّصلوا بي هاتفياً إذ كانت المقابلة ممنوعة. كان أديب من حين إلى آخر يخطر بباله مخاطبتي هاتفياً سائلاً عن صحّتي وذلك للتشفّي فكنت أقول له: "إن شاء الله تخلّص البلاد منك ومن شرّك وينقذ الله من هذه الشرور وهذا الطغيان". كنت قبل ذلك أنصح له قائلاً: "باستطاعتك أن تخدم بلادك وأن تخلّد اسمك بإبعاد الجيش عن السياسة، فتبقى أنت قائد الجيش، وبهذه الطريقة تكون قد خدمت بلادك ويقال عنك أنك أنت الذي أبعدت الجيش عن السياسة فتصبح بذلك ذا نفوذ قوي وتسير الأمور سيراً ديمقراطياً ويصبح الحكم دستورياً وإذا فعلت ذلك ترتاح أنت وترتاح البلاد". غير أنه لم يسمع كلامي. وكان عندما يخاطبني في السجن أقول له ما ذكرت. ولاحظ ضباط السجن بأن الشيشكلي الطاغي الكبير يخاطبني بالهاتف. فكنت أمزح معهم قائلاً: "أنا لست موقوفاً مع جماعة حزب الشعب والحكومة كنت أقول أنا ارسلني ابن عمّتي مراقباً عليهم ليسيروا في الطريق القويم ويهتدوا". وبالفعل كنت كأني جاويش عليهم. وكنت آمر الضباط فيما يتعلّق بأمور المعيشة والنظافة والترتيب. ولما كنت أرى أي تقصير في العمل كنت أقول لهم: "سأخاطب ابن عمّتي بالتليفون الآن". فكانوا يضطرّون إلى تحسين عملهم.

وفي ذات ليلة سهر معنا أحد الضباط وأخذنا نتكلّم عن أديب الشيشكلي فأهنته ولعنت الذين على شاكلته ممن يسبّبون النكبات للبلاد وأخذت أدعو الله ليخلّصنا من شرّهم وبصقت. فخاف الضابط ولاذ بصمت عميق. وتشجّع معروف الدواليبي بكلامي فاشترك وقلّدني ولكن بشكل أخفّ. ثمّ تركنا الضباط وأرسل أحد الجنود يأمر الدواليبي أن يحضّر حاله فقال لي معروف الدواليبي: "أهكذا تفعل بي؟ خربت بيتي". فذهبت حالاً إلى الضابط وقلت له: "لا داعي لكل هذه الأمور". قال لي: "أنت ابن خاله وهو ابن عمّتك لذلك سكتّ مرغماً، ولكنني كيف أسكت إذا تكلّم معروف الدواليبي. إن ابن عمّتك طاغٍ شديد، إنه يُعدمني". "قلت له: "سآخذ المسؤولية على عاتقي فأرح فكرك ولا تهتم". ولم يعف عنه إلاّ بعد إلحاح شديد. كانت تقع قصص كثيرة في السجن على هذا الشكل مع الضباط ورفاقنا.

(03:53:58)
دعم السعودية للشيشكلي وسقوطه – إنقلاب عبد الحميد السرّاج:

وأخيراً خرجنا من السجن. كانت جريدة الناس تصدر. كان عبد الحميد السراج عمل إنقلاب هو وضباط على أديب الشيشكلي ولم نرجع إلى المجلس لأنه كان قد حُلّ. واكتفينا بعقد إجتماع ضمّ النواب البارزين. وقد عُقد الإجتماع في حمص لأن هاشم الأتاسي كان هناك. يوم ما عقدنا المؤتمر في حمص ضمّ جميع رجال السياسة وحملنا حملة شديدة ونشرنا بياناً عن حالة البلاد ضدّ الدكتاتورية العسكرية وضدّ شرعية الحكم القائم في عهد الشيشكلي. وأخيراً انتهى الأمر بانسحاب الشيشكلي من البلاد بعد أن قام بعض الضباط بانقلاب ضدّه. وكان على رأس هؤلاء الضباط عبد الحميد السراج. وخرج الشيشكلي من البلاد والتجأ إلى بيروت، ومن هناك سافر إلى أوروبا. وقد بنى في سويسرا بناية ضخمة من الأموال التي نهبها، فكلّفت حوالي مليون فرنك سويسري. قيل يومها إنه جمع أموال كثيرة نهب وسلب وهو خوفاً على هل ذهب وهل جواهر والأموال ذهب إلى بيروت واحتضنته السفارة السعودية وبعض من رجال لبنان أيضاً مع الأسف احتضنوه أخذوه من الحدود حموه وخرج إلى أوروبا وهناك تزوّج من إمرأة سويسرية مع كون عنده عائلة ـ سيدة محترمة صادقة ومخلصة وله منها خمسة أولاد. ثم باع البناية وسافر إلى البرازيل حيث أسّس المزارع الكبيرة وتوسّعت تجارته حتى بلغت ثروته على أقلّ تعديل ستة سبعة الى 10 ملايين ليرة. وفوق ذلك كان يقبض راتباً من السعودية بلغ حوالي أربعة آلاف ليرة شهرياً، وذلك لمدّة ثلاث أو أربع سنوات.

(03:57:38)
س ـ لماذا كانت السعودية تموّله هكذا؟

ج ـ كانت الحكومة السعودية دائماً مناهضة للحكم الشرعي السوري. وكان السعوديون يفضّلون أن يكون الضباط السوريون الذين في الحكم من جهتهم وكانوا يشجّعونهم على الحكم لأننا نحن رجال الأحزاب السياسية في سوريا نرى إنه من مصلحة سوريا أن نتّحد مع العراق وكان هذا لا يوافق السعوديين مع العلم إنه كان مفيداً لكيانهم. كانوا يتوهّمون أن هذا الأمر مضرّ لهم لما بينهم وبين الهاشميين من عداوة، وكان على رأس العراق حكومة هاشمية. لذلك كان دائماً عندهم حساسية وقد أسفرت هذه العداوة عن حساسية تجاه هذا الموضوع لدى السعوديين فأخذوا يعارضون كل حكم يتقرّب إلى الوحدة، فيغرونه بالأموال والرشوة. وكان الشيشكلي من هذا النوع من الحكام فإذا به يحارب كلّ فكرة تدعو إلى الوحدة مع العراق. وكان أكرم الحوراني يسانده في هذا الموضوع.

وبعد خروج الشيشكلي من البلاد بقيت الجريدة مستمرّة، وكنت أكتب كلماتي ومقالاتي من هنا من تركيا وأرسلها إلى لبنان فقد كان رجال الإنقلاب قد عملوا على إخراجي من لبنان.

(04:00:39)
سفره من لبنان إلى تركيا:

(04:00:39)
س ـ مَن طلب منك أن تسافر إلى تركيا؟

ج ـ بعد سقوط الشيشكلي استولى عبد الحميد السراج على الحكم من خلال رئاسته للمكتب الثاني. وكان الضباط الذين قاموا بالإنقلاب ضدّ الشيشكلي يساندونه وهكذا استولى على الحكم. كانت الأفكار بعد مؤتمر حمص متّجهة إلى رئاسة الوزارة فقد كان معروفاً عني أنني في مقدّمة السياسيين الذين تظاهروا ضدّ الدكتاتورية العسكرية، ووافقوا على الحكم الدّستوري وعدم تدخّل الجيش بالسياسة. فاتّجهت الأفكار إلى تكليفي رئاسة الوزارة، وأذيعت البرقيات الخارجية على أن الأفكار اتّجهت نحوي. وفي ذلك الوقت كان المرحوم هاشم الأتاسي قد عاد ثانية غلى رئاسة الجمهورية. ولكنّ الإشتراكيين، أولئك الذين يدّعون إنهم إشتراكيون، مع العلم إنهم فوضويون وأضرّ من الشيوعيين أنفسهم لأن هدفهم التّخريب وتدمير حياة البلاد الإقتصادية والزراعية، عارضوا مجيئي إلى الحكم معارضة شديدة، وكان أكرم الحوراني على رأسهم كان يستند أكثر ما يستند على الجيش وعلى تدخّل الضباط بالسياسة، وهكذا بعد سفر الشيشكلي اجتمعنا نحن الأحزاب في حمص في بيت المرحوم هاشم الأتاسي وكلّف آنئذٍ صبري العسلي برئاسة الوزارة دون أن أدخلها. ورجعنا إلى دمشق على أمل أن تتحسّن الأمور والأوضاع وعلى أمل إبعاد الجيش عن السياسة. ولكن رجال الحكم، مع الأسف، وعلى رأسهم يومها كان صبري العسلي وكان آنذاك رئيساً للجمهورية دون أن يكون المسؤول الأوّل بموجب الدستور، إذ كان المسؤول الأول هو رئيس الوزراء وحكومته، أظهر صبري العسلي من الخضوع للضباط وتوجيهاتهم وأوامرهم ما جعل هؤلاء يطمعون أكثر من ذي قبل. وأصبح الضباط يتحكّمون في شؤون البلاد الداخلية السياسية والخارجية. وأنا لم أكن في تلك الأيام حريصاً على المجيء إلى الحكم لمجرّد شهوة الحكم ولكنني كنت أعتقد وما أزال بأن الحكم في تلك الأيام كانت تضحية. فكأن الإنسان يرمي بنفسه في أتون من وضعيّة الضباط وتحكّمهم والجيش يساندهم. وكان رأيي منذ أيام حسني الزعيم والحناوي فصل الجيش عن السياسة ولم يكن يوجد بين السياسيين مَن يجرؤ على مثل هذه العملية فكنت أعرّض نفسي وأطلب من الرفاق السياسيين ومن النواب والحكام أن ينتخبوا مَن عنده الجرأة والإقدام على إجراء هذه العملية. كان ذلك يستدعي عملية جراحية تقضي باستئصال هذا السرطان العسكري الذي استحال نزعه والذي أصبح عالة على البلاد، كما أثبتت الأيام فيما بعد فقد أصاب البلاد من المصائب والأضرار والمحن ما تنوء به الجبال. هذا وقد استمرّ صبري العسلي على خنوعه هو ورفاقه واستمرّ طغيان الضباط وعلى رأسهم عبد الحميد السراج. وإذا بالبلاد وقد أصبحت تُدار بحكم بوليسي إرهابي تحصي أنفاس الناس وتخنق فيه الحريات.

(04:08:20)
المكتب الثاني:

(04:08:20)
س ـ مَن كان في المكتب الثاني أولاً؟

ج ـ كان على رأس المكتب الثاني عبد الحميد السرّاج. وعندما وقع إنقلاب حسني الزعيم، كان المكتب الثاني موجوداً ولكنه لم يكن له أيّة علاقة بالإنقلاب. كان المكتب الثاني في ذلك الوقت مقتصراً على الجيش ولكل جيش من جيوش العالم مكتب ثاني مسؤول عن أمن الجيش وليس عن أمن البلاد الداخلي ولا عن حالتها السياسية. أما عندنا فالأمر على عكس ذلك. فالمفهوم عندنا هو أن المكتب الثاني هو الحاكم الأساسي في البلاد والمسيطر عليها. لذلك فيجب أن تكون في يده الأموال الطائلة، وبجانبه رجال الحكم أمثال صبري العسلي وغيره ممن تولّوا الحكم ورئاسة الوزارات أصبحوا تطاويع لهم وحرصوا على البقاء في مناصبهم الزائفة التي لا تشرّفهم مَن تولاّها في ذلك الوقت. والإنسان ذو النفس العزيزة لا يفاخر بالمنصب، فالإنسان القدير ذو الكرامة الشخصيّة، المخلص لوطنه هو الذي يولي المنصب الشرف وليس المنصب الذي يشرّف الإنسان. ولكن، مع الأسف، انقلب عندنا المفهوم وأصبح رجال الحكم السياسيون المدنيون آلة مسيّرة بيد الضباط. لقد كنت أنصح دائماً وأضرب على هذا الوتر دوماً كما كنت الخصم العنيف العنيد لجميع العهود العسكرية في هذا الموضوع. وبالرّغم من رابطة القرابة التي تربطني بأديب الشيشكلي كنت أشدّ خصومة عنفاً وعناداً، غير أنه لم يقتنع ولم يقبل النصائح، بل صرف كلّ جهده لتقوية حكمه وسيطرته على الأمور السياسية ولإدخال الجيش في أمور السياسة إلى أن أتت ساعته بالشكل الذي انتهى إليه وانقلبوا عليه كما انقلب هو على الذين كانوا قبله حتى أصبح من الصعب إحصاء الإنقلابات التي وقعت والتي ربما وصلت إلى العشرين، أي بمعدّل إنقلاب كل سنة. فمن السنة 1949 إلى السنة 1969 نستطيع أن نعتبر أن عدد الإنقلابات قد وصل إلى العشرين. بالطبع بتعدّد الإنقلابات وبتعدّد إعتقالات المدنيين والعسكريين أجبروا الناس على التشرّد، فخرج كلّ أرباب الكفاءات من البلاد وهرب أرباب الفعاليات الإقتصادية لأن أموالهم أصبحت تحت رحمة الطغيان العسكري فهاجرت أكثريتهم الساحقة البلاد واستقرّ أكثرهم في لبنان. وأصبح لبنان ملجأ المشرّدين من البلاد العربية وهو واحة الحرية وهو يُعتبر بالنسبة للبلاد العربية الملجأ الأمين لأبناء البلاد العربية السياسيين المشرّدين المضطهَدين.

(04:13:10)
جريدة الناس وتدميرها وحكم الإعدام:

(04:13:10)
س ـ لما رجعت إلى الشام كان عندك جريدة فما اسم هذه الجريدة؟

ج ـ كان اسمها "الناس" وكنت كلّ يوم أكتب فيها موضوعات تتعلّق بهذه الغاية السياسية، وكنت أتمتّع بحرية الكتابة لعدم وجود الإدارة العرفية ولأن على رأس الحكم كان المرحوم هاشم الأتاسي. على كلّ حال لم يعترضني أحد بادىء الأمر، ولكنّهم ما لبثوا بعد مدة أن ضاقوا ذرعاً بالجريدة وصاحبها، فأخذوا يضايقون المحرّرين ويعتقلونهم ويلاحقونهم في بيوتهم واتّفق أنني ذهبت إلى استانبول في قضية شخصية محض تجارية كلّفني بها بعض الناس. لم تكن ذات غاية سياسية. وبينما كنت هناك كتب أحد رفاقنا، وهو فيض الأتاسي، مقالاً وكذلك بدوي الجبل. لم يجرؤ أحد منهما على توقيع اسمه بل وضعا اسمي أنا، فاتّخذ عبد الحميد السرّاج وعصابته وطغمته ورفاقه ذلك ذريعة، المحرّرون أخذوهم للسجن وكسروا وحطموا إدارة الجريدة وأغلقوها وكانت النتيجة اختلقوا إختلاقات وأصدروا بحقي حكم الإعدام.

(04:16:57)
س ـ لماذا حكموا عليك بالإعدام؟

ج ـ لأنني سافرت إلى تركيا. فقد اعتبروا سفري لغاية سياسية، وهي دعوة الجيش التركي إلى البلاد السورية للقضاء على الحكم. لو عرفت أن باستطاعة تركيا إعطائي قسماً من الجيش يكفي لإزالة هذا الطغيان، ولكن ليس لتركيا هذا الإستعداد ولا أنا في هذه الغاية. لقد اختلقوا هذه الحجة اختلاقاً ومنعوني من دخول سوريا، فرجعت إلى لبنان وكان ذلك في سنة 1954 وما أزال إلى الآن لم أذهب إلى سوريا فقد بقي حكم الإعدام ساري المفعول إلى سنتين مضتا أو ثلاث سنين عندما صدر العفو بسبب تقدّمي في السنّ. وقد بقيت أكتب بالجريدة من لبنان.

(04:18:49)
س ـ ما هي الجرائد التي تنشر مقالاتك؟

ج ـ جريدة الناس كانت تنشرها.

س ـ مَن الذي أعاد فتحها؟

ج ـ فتحت باسمي أنا.

(04:18:58)
س ـ ولكنّك محكوم بالإعدام أليس كذلك؟

ج ـ الحكم بالإعدام صدر مؤخّراً.

(04:19:15)
حركة التجمع الوطني:

فقد جرت الإنتخابات بعد عهد الشيشكلي ورشّحت نفسي للنيابة فحاربوني في هذه المرة أيضاً ولكنني بقيت مستمراً طبعاً فشلنا في الإنتخابات مع ما حدث من تكسير الصناديق والتّزوير والعمليات العسكرية وبقي أكرم الحوراني يحرّض الجيش على التدخّل. وقاموا بحركة تجمّع دعوها باسم التجمّع الوطني ضمّت فيمن ضمّتهم صبري العسلي وكان رئيسا للوزارة ورفيقه مخائيليان وهما من أعضاء الحزب الوطني. وقد انقسم الحزب الوطني قسمين: قسم مع التجمّع وعلى رأسه صبري العسلي وميخائيليان وقسم آخر ضدّ التجمّع وضمّ لطفي الحفّار بدوي الجبل ورفاقهم صلاح شيخ وآخرين وأنا كنت أؤيّد القسم الثاني أي ضدّ التّجمّع. وقد وجدت في هذا التجمّع خطراً على البلاد ثمّ إنّه فتح الطّريق أمام أكرم الحوراني وجماعته. وقد قصد من التجمّع جمع الإشتراكيين والشيوعيّين وقسم من الحزب الوطني. وكان ميخائيليان صاحب فكرة التجمّع هذه ومتحمّساً لها. وبذلت جهدي لأمنع هذا التجمّع فذهبت إلى الفندق الذي كان ميخائيليان نازلاً فيه. وهو صديق قديم لي من قبل اشتغلنا في المسائل الوطنية من عهد الشباب وهو رجل له ماضٍ وطني مع سعد الله الجابري، تحمّس لهذه الفكرة وأظنّ أنه زعم إنه سيربح أكرم الحوراني والشيوعيين بضمّهم للحزب الوطني فأنا بزيارتي ألححت عليه إلحاحاً شديداً بأنّ فكرة جمع الشيوعيين والإشتراكيين إلى الحزب الوطني غير صالحة وأخذت أبيّن له الطّريق الوعر، فبدلاً من أن يكون ذلك تجمّعاً بينهم وبين الشيوعيين وأكرم الحوراني فسينقلب عليهم أكرم الحوراني، وبهذه الطّريقة نكون قد فتحنا المجال باسم التجمّع للشيوعيين ولأكرم الحوراني وجماعته ليحكموا البلاد. ولكنه مع الأسف لم يقتنع مني. فكتبت في جريدة الناس مقالاً استفزّيت فيه شعوره الوطني أبنت فيه الخطر الشديد الناجم عن هذه اللّعبة الخطرة. وقلت إنه يجب على ميخائيليان إذا كان رجلاً وطنياً مخلصاً أن يكفّ عنها. ورجوته أن ينزل عند رأيي ويقبل رجائي. وما أن قرأ المقال حتّى أرسل لي أحد الأصدقاء قائلاً إنّه لا يمكنه التّراجع عن هذه الفكرة، ومنذ شهرين أو ثلاث وأنا أطرّزها تطريزاً كأنّها تابلوه عم بطرّزها وإنه يعتبر نفسه ناجحاً فيها وطلب مني أن أقطع كلّ أمل بإقناعه. وفي اليوم التالي كرّرت في مقال آخر قلت إنه هيك كان أملي وهكذا كان الجواب بأنها تطريزة لميخائيليان. رجائي راجياً من الله أن أكون أنا المخطىء. إنّ شرّ ما ارتكب في السياسة السورية، على ما أعتقد، هو هذه التجمّعات التي كان من شأنها أن فتحت الباب أمام الشيوعيين وأمام أكرم الحوراني وجماعته الفوضويين عن هذا الطريق. ولا شكّ أن الطغمة العسكرية كانت تؤيّد موضوع التجمّع، فأساس الفوضى من هذه الجهات أن جميع العسكريين فوضويون وشيوعيون، والحقد متأصّل فيهم. فهم الذين شجّعوا صبري العسلي وميخائيليان وجماعتهما. ثمّ ختمت كلامي مبيّناً أن رأيي على خلاف ما يراه ميخائيليان فالعملية ليست عملية تطريزة إنّما هي عكس ذلك. مع الأسف رفعت الرّاء من الكلمة وحطّيت أسفار وحطّيت زين وها بالآخر فصارت تط...يزة ونشرت المقالة فأخذت شهرة واسعة. أما ميخائيليان فقد تشرّد نتيجة لهذه الأفكار.

(04:27:22)
س ـ أين هو الآن؟

ج ـ في استانبول. ذهبت في سنة 1958 إلى استانبول فلحق بي إلى هناك هرباً من الإغتيال. عندما وصل إلى استانبول استقبلته وقلت له: "إنّ النّتيجة لم تكن تطريزة بل كانت هريبة". قال: "ما العمل صبري العسلي هو الذي خانني وخان العهد". قلت له: "أنت كنت العامل الوحيد في ذلك وأنت الذي قدت صبري العسلي، وأنت الذي عاندت عناداً خطراً. لم تقبل رأيي وفتحت الباب على مصراعيه للشيوعيين وها هم الآن يتمركزون مع أكرم الحوراني وطغمة الضباط والحكم العسكري وبدأوا يتصدّروا قضيّة الوحدة.

(04:28:46)
رأيه بأكرم الحوراني:

(04:28:46)
س ـ هل كانت لأكرم الحوراني ميول شيوعية، أم أراد أن يسايرهم؟

ج ـ طبعاً، كانت ميوله شيوعية فهو بالأساس رجل شيوعي حاقد، ناقم على البشر ناقم على القلم والبشر وقد سمّيته في بعض مقالاتي في جريدة الناس "بالطرح" لأنه ولد في الشهر السابع. سباعي هو صغير الجثّة فهو لم يكن مكتمل البنية. لقد ولد في بيئة حوله نحن وغير عوائل في غنى وثروة ونعيم ولكنه لم يكن محبوباً بالنسبة لنا نحن أولاد العائلات الكبيرة وأبناء الأصالة والزراعة والأملاك. لقد كان ناقماً يشاطر أديباً الشيشكلي شعوره. فقد كانا صديقين حميمين منذ الصغر لديهما الأفكار نفسها والحقد نفسه. ثمّ أخذا يتّصلان بعبد الناصر وجماعته المصريين من أجل الوحدة.

(04:30:25)
علاقته بشكري القوتلي:

وكان ذلك في عهد شكري القوتلي. طبعاً كنت سعيداً برجوع القوتلي بعد أن كان في المنفى في الإسكندرية بعدما أخرجه حسني الزّعيم وقد دافعت عنه في الجريدة وطالبت برجوعه في حين كان المقرّبون إليه والّذين أفادوا منه يقلبون له ظهر المجن. فسعيد الغزي، على سبيل المثال، وقد كان على رأس الحكم، كان من رجال شكري القوتلي، وقد تنعّم على أيامه بالمناصب والوزارات وشمله شكري القوتلي برعايته، ومع ذلك فقد عارض رجوع القوتلي خوفاً من الضباط. وقد حملت حملة شعواء على سعيد الغزي وحكمه وعلى تنكّره لشكري القوتلي بعد أن كان هذا الأخير ولي نعمته. وكنت أقول أن القوتلي مواطن سوري في منتهى الأمر وله الحقّ أن يعود إلى وطنه.

(04:32:16)
س ـ على أي أساس أخرجوه من بلده؟

ج ـ بعد السجن توسّط رجال الدول الخارجية مثل السعودية لإطلاق سراحه من السجن بعد إنقلاب حسني الزعيم، أخرجه حسني الزّعيم وطلع واستقرّ بالإسكندرية في مصر. توفيت والدة إمرأته وكان يريد أن يحضر جنازتها، منعوه، حتى الطائرة التي أتت يومها حامت حول سماء دمشق، أبقوها ساعة حتّى يتأكّدوا أن شكري القوتلي موجود فيها أو لا، فكادوا يُرجعوا الطائرة ولما تأكّدوا من عدم وجوده نزلت الطائرة ونزلت عائلته. فحملت أنا واستمرّيت بهذه الحملة وإنّ هذا عيب ولا يجوز ولم يكن رجوعه من المنفى إلاّ نتيجة للحملات الصحفية.

(04:34:12)
س ـ في أية سنة قامت هذه الحملات؟

ج ـ في سنة 1953 لمّا كنت أقوم بتلك الحملات كنت في بيروت حيث كنت أكتب للجريدة. وكان ذلك سنة 1956. وكنت في أوتيل البريستول، عندما أتى شكري القوتلي إلى بيروت أبدى لي كثيراً من العطف وأظهر لي شكره على دفاعي عنه. وكان يصرّح علَناً للوافدين عن شكره لي ويقول إنه لم يقف أمام الطغيان أحد غير حسني البرازي. وقف أمام الحكم العسكري وهو الذي كان يدافع عن البلاد وعن حقوقها دون أن يجني من ذلك أية إفادة في عهده (أي عهد القوتلي)، في حين أن الذين كانوا مستفيدون منه أصبحوا الآن ضدّه وحقدوا عليه هذا وقد قال لي: " غدا لما أعود إلى الحكم فستكون برفقتي وتتسلّم الحكم ولن أتعاون مع أحد سواك".

(04:36:15)
س ـ ما هي الخلافات التي كانت بينكما في عهده الأول حتى إنّك لم تتقرّب منه مع العلم أنّ معرفة قديمة كانت تربطكما؟

ج ـ السبب الأوّل هو المواقف السلبية. فقد كانوا سلبيين يسيرون وراء الشارع في حين كنت إيجابياً في كل وقت من أوقات تمرّسي بالحكم. وقلت أنا سنة الـ 1919 كيف كنت إيجابياً مع الملك فيصل وسنة الـ 1926 كنت إيجابياً وسنة الـ 1936 و1934 كنت إيجابياً والـ 1942 كذلك في كلّ هل مواقف هذه وبعدها إجا العهد النيابي كمان كنت على هذا الشكل فهو أظهر هذا الشعور. وقد بقي القوتلي على ما كان عليه من سلبية. فعندما عاد إلى دمشق وانتُخب رئيساً للجمهورية عدت كذلك إلى دمشق. وأتت قضيّة الوحدة أنا كنت ضدّ رأي الوحدة كان رأيي بها وحدة مبتورة. حملت عليها. فالوضع لم يكن ناضجاً ليسمح بالوحدة مع العلم أنني كنت من طلاّب الوحدة العربية في عهد الدراسة في استانبول. ولكن للوحدة أصول وأوقات وزمنها الخاص وقد كان لها رجالها المخلصون يقومون بحمل أعبائها. أما هم فلم يكونوا على مستوى الوحدة، هذه الوحدة قام بها عصبة الضباط وتدخّلوا بشؤونها. فهم الذين حملوا القوتلي إلى مصر. ذلك هو سبب وجود القوتلي في مصر وليس ما زعموه بأنه ذهب إلى هناك ليهيّىء الوحدة مع مصر ليخلّص سوريا من الحوراني والشيوعيين. فقد ذهبت عصبة من الضباط أو بالأحرى عصابة فلا تنطبق عبارة العصبة عليهم فهبت العصابة وعلى رأسها عبد الحميد السرّاج وجماعة أكرم الحوراني وصلاح البيطار وتباحثوا مع عبد الناصر فسألهم مَن هم بقيّة الضباط، فتلوا الأسماء وتحمّس للفكرة، فبذلك يعمّ حكمه تحت شعار الوحدة العربية وبذلك تعاني سوريا من طغيانه الذي عانت منه مصر. واتّفق معه الضباط ووقّعوا على ذلك. أمّا شكري القوتلي فما كان إلاّ صورة. لقد كان المفروض منه بعد أن عاد إلى الحكم ثانية بعد الإنقلاب الذي وقع ضدّه أن يعيد حكم الدستور ويُبعد الجيش عن السياسة. غير أنه كان ضعيف الإرادة والأعصاب مُحاطاً بالمخادعين المطاويع.

(04:40:51)
س ـ مَن هو الشخص الذي كان مقرّباً إليه أكثر من غيره؟

ج ـ كان صبري العسلي وميخائيليان والجماعة المدنيون وأكثرهم من الموظّفين في القصر أمثال عبد الكريم العائدي. كما كان مقرّباً إليه أيضاً خالد العظم. كانوا يخوّفونه من الإنقلاب ويحذّرونه من القيام بأي أمر خوفاً من النّقمة عليه ثانيةً. فخاف وحرص على المنصب وأصبح الحكم لعبد الحميد السرّاج. في عهده، حتّى لما انتُخب يوم انتخابه كان العسكريون يؤيّدون انتخاب خالد العظم ضدّ شكري القوتلي عندئذٍ اتّصفت الحالة بالحماسة وكان النجاح إلى جانب شكري القوتلي وأخفقوا هم في عمليتهم من أجل خالد العظم، فتظاهر يومها حوالي عشرين ضابطاً على رأسهم عبد الحميد السرّاج في شوارع دمشق ضدّ شكري القوتلي مساء انتخابه بعد أن خرج من المجلس النيابي وحلف اليمين وتجمهروا أمام القصر الجمهوري وأخذوا يصفّقون ويطلقون شعارات مهينة بذيئة صارت معروفة في الشام: (واحد يقول شكري بك والآخرين يقولون خراي عليك شكري بك خراي عليك) وهو رئيس جمهورية. وأصبحت هذه الشعارات مشهورة في دمشق وكان شكري القوتلي يسمعها ولا يعيرها أي اهتمام. فانا سمعت بهذه الأمور.

(04:43:27)
س ـ هل كان يتّصل بك من حين إلى آخر؟

ج ـ كلاّ، لم يتّصل بي مع أنه وعد أنني سأكون معه في الحكم وكان يقول لي: "لا يمكن أن أتركك منصرفاً إلى عملك الزراعي، سوف تشاركني في الحكم". غير أنه انغمس في الخوف والخضوع كما كان سابقاً. كنت أرسل إليه مَن يقول إنني لا أريد شيئاً سوى أن يعيدني إلى بلدي لأعمل في الزراعة. وكنت كلّما وجدته ينغمس بالخضوع أرسل إليه طالباً منه أن يفي بوعده وهو إبعاد الجيش عن السياسة قائلاً إننا لا نريد أكثر من ذلك. أما هو فقد كان أعجز من أن يقوم بمثل هذا العمل.

وأخذت الأمور تجري نحو الوحدة وأخذوه عنوة إلى مصر. بعد ما وقّعوا هم قالوا إذهب معنا إلى مصر. شكري القوتلي لم يكن صديق عبد الناصر، لكن بزمن فاروق أعطوه رواتب فخمة ضخمة والسعوديين عبد العزيز بن سعود كان يعطيه رواتب ضخمة فوق العادة وعاش عيشة ملوك في الإسكندرية في المنفى على أموال وعلى دعوات وعلى قصور وكل شيء. ولما جاء عبد الناصر طبعاً لم تبقَ الأمور كما كانت ولكنّهم لم يقطعوا عنه المعاشات وبقي على علاقة شخصية. هذا ما حصل .

خدعوه بالوحدة وإنه سيتنازل عن الرئاسة لأجل الوحدة مع العلم إنه لم يكن قد بقي له من الرئاسة إلاّ سنة واحدة. وبالنسبة لهذه التّضحية التي بذلها دعوه بالمواطن الأوّل. أما أنا فكنت أكتب في الجريدة قائلاً بوجود خطأ بالتعبير، فهو "المواطىء" الأوّل وليس المواطن الأوّل. لقد ضرب الإستقلال وضرب البلاد، ثمّ خان اليمين الذي أقسم عليه وهو الحفاظ على الدستور وعلى الحياة النيابية والإستقلال. لقد داس إستقلال البلاد وداس الدستور وكرامة البلد. وكنت أتوقّع أن تكون هذه الوحدة وحدة مشلولة وناقصة لا يُجنى منها أية فائدة. وكان كلّ ما أتوقّعه يحدث.

(04:47:58)
قيام الوحدة العربية وعلاقته بجمال عبد الناصر:

(04:47:58)
س ـ هل باستطاعتك أن تخبرنا عن دعوة عبد الناصر لك بصفة كونك صحافياً؟

ج ـ كنت قبل مجيئي إلى لبنان سنة 1954 أعمل في جريدة الناس في دمشق. وقد دعاني عبد الناصر في ذلك الوقت وصحفيين آخرين. وكانت دعوته دعوة خاصة لي ولعقيلتي، وبقينا في ضيافته خمسة عشر يوماً مكرّمين معزّزين. وقد قدّموا لي سيارة من مأمورية الإستعلامات وكان يرافقني أحد أركان المأمورية كما قدّموا لعقيلتي سيارة ثانية وكانت ترافقها هي ايضاً سيّدة من مأموريات الإستعلامات ولكن مع كل هذا الإكرام كنا نشعر بأننا مراقبين.

(04:49:04)
س ـ ما هو الحديث الذي دار بينك وبين عبد الناصر؟

ج ـ قابلته حوالي سبع مرات وتحدثنا أحاديث خاصة وكان مركزي في الحفلات على يمينه أو يساره.

(04:49:23)
س ـ ما هو هدف الدعوة؟

ج ـ تمهيداً للوحدة. فقد عزم على هذه الفكرة وأخذ يشتغل مع العسكريين، وأخذت أعمل مع المدنيين. دعا الصحافيين بعد الإنقلاب العسكري على فاروق ليتدارسوا الوضع. وكانت دعوتي خاصة، بصفة كوني رئيساً سابقاً للوزراء وصاحب جريدة. وكان خلال إجتماعاتي معه يظهر الإخلاص لسوريا وللوحدة العربية ولرجالها. وقد فهمت من خلال بحثنا بالإشتراكية إنه شيوعي فوضوي وعلمت من الطريقة التي يتّبعها إنه ليس ذلك الرجل المخلص لبلاده، وقد استطعت على الرغم من المراقبة التي كانت عليّ أن أتّصل ببعض الرجال القدامى الذين كنت أعرفهم فعرفت أشياء كثيرة عن عبد الناصر وتتبعتها وكان اقتناعي هو إنه رجل مؤذي. وعندما عدت إلى سوريا كتبت مقالاً في الجريدة عنوانه "عهد البكابشي والصّاغات" ذلك إنه كان برتبة بكباشي أي كومندان وكان عبد الحكيم عامر برتبة صاغ. وأطلقت عليه اسم ناصروف كما أطلقت على عامر اسم عامروف وعلى الحوراني حورانوف. وقد كان أصدقائي في سوريا يستغربون هذا التصرّف إذ كانو يعتقدون بأنه لم يظهر منه شيء يدعو إلى ذلك. بل كان يتكلّم مظهراً المساعدة والنوايا الحسنة. أما أنا فقد كنت أقول لهم: "ستُثبت لكم الأيام صحة كلامي. فليس كلامه إلاّ تظاهر كلّه. وها هو تاريخ حياتي يُظهر أن لا خصومة شخصيّة بيني وبينه ولكن كان يتراءى لي إنه سيقوم بدور مؤذي للبلاد العربية أجمع. فهو ناقم على القدر، حاقد على كلّ ذي نعمة وعلى كل ذي كفاءة. وكان يتراءى لي ايضاً إنه لن يقرّب أصحاب الكفاءات وأرباب الإستقامة والأخلاق، بل سيكون عهده شرّ العهود. وإن هو توصّل إلى تحقيق الوحدة مع سوريا فسترى سوريا من الأهوال والمحن والشدائد ما لا يتصوّره عقل".

ثمّ تمّت الوحدة ولم يعد "للمواطىء" الأوّل أهميّة، فقد أهملوه. كان إذا حضر الدعوات حضر بشكل مهان، ولكنّهم ضاعفوا له الراتب فأصبح عشرة آلاف ليرة بدلاً من خمسة آلاف وتركوا له مخفر الدرك في القصر. وقد سرّ كثيراً بذلك إذ كانوا يؤدّون له التّحيّة عند دخوله وخروجه. وفي أثناء حكم عبد الناصر بدأت خفايا هذا الرجل تظهر للناس، من طغيان وتواطؤ مع الضباط .

وما لم تكن عند امرىء من خليقةٍ وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ

كان الناس في سوريا يتوقّعون أن يقضي عبد الناصر في عهد الوحدة على الحكم الإرهابي البوليسي الذي يتولاّه عبد الحميد السرّاج، هذا الرجل الضابط الناشىء الذي لا قيمة عسكرية له ولا مدنية ثقافة علمية. فكل ما يتمتّع به من صفات إنه يتجسّس يحب الإرهاب ويتغذّى بالإنتقام والقتل والتّعذيب. وقد جعل من الحكم وسيلة للإرهاب سواء أكان ذلك بالسمّ أم بالتعذيب، حتى توصّلوا إلى تذويب الأجسام بالأسيد. وقد اختفى رجل لا أذكر اسمه، فقالوا إنهم لم يعثروا على جثته. أما الحقيقة فقد ذوّبوا جسمه بالأسيد. طغيانهم مثل طغيان الشيوعيين والروس. فقد بزّوا الألمانيين وبزّوا الروسيين. فقد ذوّبوا جسمه بالأسيد وكانت الدولة اللبنانية تطالب به وهم ينكرون انهم رأوه.

وقد سارت الوحدة على هذا الأساس الفاسد، وتقوّى الحكم الإرهابي من الطغمة العسكرية. ثم بدأ الإصلاح الزراعي، وبالحقيقة الإفساد الزراعي فكان طريقة من طرق نهب الأراضي وحسب. فالفلاح لم يستفد ولم يتسلّم أراضي زراعية بصورة فعلية، لم يتسلّمها إلاّ الضباط والإشتراكيون، بل أولئك الذين يدعون بأنّهم إشتراكيون وهم بالفعل شيوعيون فوضويون على رأسهم خالد بكداش وصلاح البيطار وأكرم الحوراني الذين أخذوا يقومون بالأدوار المضرّة بالبلاد.

(04:58:14)
س ـ ماذا حدث للجريدة؟

ج ـ بقيت تصدر إلى سنة 1957، حينئذٍ توقّفت، إذ حكمت عليّ المحاكم العسكرية بالإعدام، وانتهى المطاف بأن تسلّم الحكم أكرم الحوراني نائب الرئيس وصلاح البيطار وزير خارجية والعسكريون والطغمة الشيوعيون الذين هدموا البلاد زراعياً وصناعياً وهدروا أموال الناس وقيمهم وقضوا على كرامة البلد. لقد كان أمل أكرم الحوراني أن يتسلّم الحكم في عهد الوحدة ليغذّي روحه ونزعته الإنتقامية بحقده وكراهيته لسوريا. ولكن عبد الناصر لم يوصله إلى مطلبه ذاك بل عيّنه نائب الرئيس في مصر، في حين أن أكرم الحوراني كان يرغب بالمجيء إلى سوريا. وقد أبعده عبد الناصر عمداً ليترك الحكم للجيش. خصوصاً وأن عبد الناصر ينتمي إلى فئة العسكريين. ذلك إنه لو بقي أكرم الحوراني في سوريا لربما عمل على إبطال الوحدة لأجل الإستئثار بالحكم. فلهذه الأسباب وضعه في مصر، هذا وكان عالماً بعدم إخلاصه. ثمّ وقعت الخلافات وانتهى الأمر بهذه المأساة التي مثّلوها وكانوا يتزاحمون على أذيّة البلد، وبقي عبد الحميد السراج في الحكم، خلافاً لما كان متوقّعا. وهكذا، بدلاً من أن يقضي عبد الناصر على الحكم البوليسي أرخى له العنان فزاد هذا الحكم الإرهابي زيادة لا يتصوّرها العقل. وأخذ عبد الناصر يتردّد من وقت إلى آخر إلى سوريا ويلقي الخطابات الزّائفة ثمّ أخذ يتعرّف برجال البلاد السياسيين الأوائل الذين شادوا استقلال البلاد بجهودهم وعلى أكتافهم. أما هو فلم يتعب ولم يقم باي شيء لا في سبيل سوريا ولا في سبيل مصر. وانتهى الأمر بإفلاس عهد الوحدة. ولكن ذلك لم يفت بعضدنا فعدنا نواصل السعي لتحقيق وحدة عربية صحيحة.

(05:02:41)
س ـ خلال وجودك هنا بمن كنت تتصل من السياسيين في بلادك؟

ج ـ لقد تشرّد أكثرهم والتجأوا إلى بيروت كذلك تشرّد رجال التجارة والأعمال.

(05:02:59)
س ـ هل حاولتم عمل شيء لأجل الوحدة في خارج البلاد؟

ج ـ من الصّعب جداً العمل بوجود الحكم العسكري الإرهابي. فقد كانوا خلال السنتين أو الثلاث التي مرّت على الوحدة يخدعون الناس. وقد قوّوا شعارات الوحدة القائمة على الإرهاب وخنق الأنفس، وعلى النظام غير الدستوري. أجل، لقد كان هناك مجلس نيابي لوقت من الأوقات ولكن لم يكن لهذا المجلس أية قيمة على الإطلاق. كان كالمجلس الذي كان قائماً في مصر. وهكذا لم نعد نستطيع أن نفعل شيئاً. وأصبحنا في لبنان بمثابة لاجئين سياسيين.

هذا وأصبح الناس في سوريا السياسيون منهم وغير السياسيين يخشون ملاقاتي بسبب الوضع الراهن من جواسيس الى الحكم الإرهابي السائد في سوريا، إنتقام عبد الحميد السراج.

(05:08:59)
أسباب سقوط الجمهورية العربية المتحدة:

فقد طاب للسرّاج الحكم الإرهابي وأصبح لا يطيق أي شريك له في الحكم. وإذا به يدبّر مؤامرة على عبد الناصر، وكادت مؤامرته أن تتمّ لولا أن وقع الإنقلاب عليه. ثمّ أتى من بعده بعض الضباط وقاموا بإنقلاب، دعوه بإنقلاب الحنّاوي، فأخرجوا عبد الحكيم عامر من سوريا بالقوّة وأخرجوا الجيش المصري الذي كان قد بلغ حوالي 25 ألفاً من المصريين.

(05:09:45)
س ـ هل تعتقد بأن الحقّ على عبد الحكيم عامر، لأنه لم يوصل الأخبار إلى عبد الناصر على حقيقتها، أم أن ذلك مجرّد عذر؟

س ـ بالأساس لا يعرف المصريون ما يجري في مصر ذاتها، فكيف يعرفون ما يجري في سوريا. كان عبد الحكيم عامر يقول إنه أكبر قوّة ضارية في الشرق الأوسط بما في ذلك تركيا وباكستان. وعندما جدّ الجدّ برهن بأنه أضعف قوّة غير ضارية. فهم ليسوا مضطلعين على شؤونهم في مصر وليسوا مخلصين لها، فلا يوجد غير الإرهاب والكذب والرشوة والسرقات. شأنهم في ذلك شأن سوريا خاصة بعد انقلاب الحنّاوي. الضباط العسكريون جميعهم كانوا يتاجرون لتجميع الثروات وذلك من خلال صفقات الأسلحة وتهريب الحشيشة والأفيون والهرويين. كانوا يجمّعون ثرواتهم باية طريقة ويدّخرونها في أوروبا وينعمون بها ويترفّهون ثم يعلنون انهم اشتراكيون متقشّفون بينما اصبحوا بزّ الملوك باسرافهم وتبذيرهم هم وعائلاتهم ونساؤهم. فما كان يفعله الملك فاروق يفعله عبد الناصر ويزيد عليه أضعافاً. وإن كان لفاروق قصر في الإسكندرية فلعبد الناصر قصور. كل ولد أله إستراحة معمورة على البحر وكل ولد إله يخت وكل بنت إلها يخت. الملك فاروق كان يروح برحلة بسفينة اسمها المحروسة صار عبد الناصر يروح بالمحروسة ووراه اسطول. بكلّ المواضيع بزّ الملوك وبزّ السلاطين. الشيء نفسه يحدث في كلّ عهد وذلك ما حدث في العراق بعد عهد الملكية وهذا ما يحدث في سوريا فالضباط يفعلون الشيء نفسه. فلا مبادىء ولا أخلاق ولا روح وطنية، إنهم جماعة من الأشرار المتسلّطين، هدفهم نهب البلد هدفهم الإنتقام والحقد على البلد. إنّهم لم يفعلوا شيئاً في ماضيهم من أجل إستقلاله وسيادته لذلك كان من السهل عليهم تخريبه، وما فتئوا يغذّون أرواحهم بتخريب الوطن والإنتقام من أهله حتى أفقروه وأذلّوه ودمّروه وأضاعوا وجوده وكيانه. لقد كانوا منذ البدء يدبّرون صفقات الأسلحة كلّها. حتى لمّا وقعت الحرب (العربية الإسرائيلية) الأولى قيل إن فاروق هو سبب الهزيمة وسبب الحرب إذ أخذ ثمن الأسلحة واشترى أسلحة فاسدة. ومرّت 16 سنة على الحرب الأولى ثمّ حدثت هزيمة أعظم من الهزيمة الأولى مع العلم بأنه كان لديهم في هذه الحرب أسلحة جديدة ليست مستعملة. في سوريا، كان ستون بالمئة من موازنة الدولة للجيش، وقد أنفقوا مئات وآلاف الملايين على الإستحكامات، ومع ذلك لم تصب هذه الإستحكامات برصاصة واحدة. وقد خرج أحد الضباط من الجبهة على حمار وليس بسيارة جيب ((Jeep كي لا يعرفه الإسرائيليون، خرج وقال للجنود: "كلّ واحد يدبّر حاله". وخرجوا كلّهم من الاستحكامات ، كأن حصل ماجينو في سوريا في منطقة تعرف بالجولان. وهكذا لم يطلق هناك قذيفة مدفع واحدة.

(05:15:02)
علاقة سوريا بإسرائيل وأخطاء النظام:

(05:15:02)
س ـ يقال إن لسوريا علاقة مع إسرائيل، هل هذا صحيح؟

ج ـ نعم فلهذا القول أساس وليس خيالياً. فقد اتّصل الفرنسيون بالعلويين وغير العلويين واجتمعوا في إسبانيا مع سفير فرنسا الذي قال لهم: "إن الإسرائيليين يريدون أن يصلوا إلى القنيطرة ولن يؤذوكم وسيتركون لكم نظام الحكم". ومع ذلك ما تزال إذاعات مصر وسوريا تعلن أن إسرائيل فشلت في الحرب لأن قصدها كان قلب النّظام. والنّظام بقي والحمد لله ما وصلت لمآربها إسرائيل بالحرب. لقد استولت إسرائيل من الأراضي المصرية والسورية على ضعفي أراضيها وما يزال الإعتقاد بأن إسرائيل هي الفاشلة في الحرب وما يزالون هم المنتصرين. إنّ مثل هؤلاء الناس لا يخجلون. قيل: "إذا لم تستحي فافعل ما شئت". لقد جفّ ماء الحياء في وجوههم ولو كان في كرامة أو شرف كانوا يتركون الحكم فدعوها نكسة تخفيفاً لألم الهزيمة بينما هي بالحقيقة نكبة وأكثر من نكبة.

من أهم الأمور التي جرّت النكبات على البلاد، وقد ذكرت منها أمثلة عديدة، السّلبية التي اتّبعتها الأحزاب التي كانت قائمة عندنا، سواء الحزب الوطني وحزب الشعب، تلك السلبية التي لا ترتكز على العقل والمنطق. إنّهم يضيّعون كل فرصة لهم خوفاً من الشارع فهم لا يعتقدون بمصلحة البلاد ولا يشعرون بها، وهكذا أوقعوا البلاد ومقدّراتها بيد ضباط جهلة عسكرياً وثقافياً ووطنياً ليسوا مخلصين لوطنهم وبلادهم، لأنهم لم يتعبوا في نيل الإستقلال فقد أتى هؤلاء الضباط في ظروف اعتباطية بواسطة الإنقلابات العسكرية. كان رجال الأحزاب كلّما حدث حادث يظهرون بمظهر السلبية الشديدة. أذكر على سبيل المثال عندما نشبت الحرب في كوريا، دار البحث في المجلس النيابي حول إرسال الدول غير الشيوعية قوات لتساعد الدول الغربية. فقام أكرم الحوراني والشيوعيون الفوضويون ونواب آخرون كمصطفى السباعي وغيره وأخذوا يظهرون الشدّة ويتكلّمون بما هو في غير مصلحة البلاد. فطلب بعض النواب جعل الجلسة سريّة وأخرج الصحفيون والمستمعون. وبقيت صامتاً أمام ادّعاءاتهم، فقد اعتدت على مثل هذه المهاترات بيحكوا حكي للإستهلاك بيحكوا حكي من أجل إرضاء الشارع وكان موضوع حديثهم إنه يجب أن يرسل قواتنا الجوية والبحرية والبرية إلى كوريا لمساعدة الشيوعيين وليس لمساعدة الحلفاء الغربيين. كان ذلك منذ خمس عشرة سنة تقريباً، وكان وضعنا العسكري آنذاك معروفاً، إن في الجو أم في البحر أم في البرّ. عند ذلك اعتليت المنبر وأخذت أتكلّم ساخراً بهم بعقلهم وبمنطقهم فقلت: "يجب أن نعلم أن هذه الساعة هي ساعة تاريخية فنحن على مفترق طريقين، والإذاعات بانتظار قرارنا، فإذا انظمّت سوريا للشرقيين وأرسلت قواتها لهم فسينهزم الغربيون، وإذا انضممنا للغربيين فسينهزم الشرقيون. لذلك أرجو أن نبحث الأمر بهدوء فالعالم على مفترق طرق تاريخي عظيم، فإما أن ننظمّ للشرقيّين فينكب الغربيون نكبة عظيمة وإما أن ننظمّ إلى الغربيين فتحلّ النكبة على الشرقيين. بين كوريا وسوريا ما في غير حرفين بيختلفوا وهم الكاف والسين وهل حرفين إذا اجتمعوا بيعرف أكرم الحوراني والشيخ مصطفى السباعي شو بكون القفزات الحربية بيناتهم، وبعدها رجعت أنا على الكلام الجدّ فقلت: "ما في حيا ما في خجل هل لدينا قوات بحرية أو جوية أو برية لننظمّ إلى أحد ما كنتوا تعرفوا تستحوا أمام الناس وأمام العالم هل تبجّحات هيذي وهل شعارات الكذابة وهل سير وراء الشارع الجاهل لقد جنيتم على البلاد مرات كثيرة وما تزالون مستمرّين بالطغيان وبالإنقلابات المتوالية سلّمتوا البلاد إلى طغمة عسكرية إنقلابية وإنتوا من إنقلاب لإنقلاب.

ومن جملة القصص التي حدثت أيضاً قصة مشروع مياه الأردن. كان السيد اريك جونسون الممثل الشخصي للرئيس الأميركي أيزنهاور، وهو من الشخصيات الأميركية المعروفة موزون وراكز، وقد أتى إلى لبنان بخصوص هذا الموضوع، وعلمت إنه يفاوض الحكومة السورية ايضاً. وعندما علمت أن السوريين سيرجعون إلى سلبيتهم ويضيّعون الفرصة على البلاد كتبت مقالاً في جريدة الناس أيضاً مبيّناً رأيي بالموضوع ووقّعتها باسمي ودعوت إلى وجوب قبول المشروع، وخلاصته أن الحكومة الأميركية تؤمّن مياه الأردن بأموال من إسرائيل وذلك بإعطاء الثلثين منها إلى العرب والثلث الباقي إلى إسرائيل، أما العرب فلا يتكلّفون شيئاً. وقلت إن قبول هذا المشروع أفضل من أن تؤخذ المياه دون أن يستفاد منها. ولما قرأ أريك جونسون مقالي أتى لزيارتي وقال لي: "إنّي أقدّر المجهود الذي بذلته. وقد أُخبرت بما تكلّمت به في المجلس النيابي. وتقديراً مني لشجاعتك ومعرفتك فقد أتيت لزيارتك لأوضح لك بعض النقاط التي تتعلّق بهذا الموضوع أكثر مما تعرف. وأوضح لي مفصّلاً فائدة هذا المشروع للبنان وسوريا وللبلاد العربية أجمع. ثمّ قال: "إن لم يقبلوا بالمشروع فسيأتي اليوم الذي تنبأت أنت عنه، فتأخذه إسرائيل دون مقابل ودون إعطاء شيء لسوريا. لهذا السبب قصدت زيارتك لأخبرك بذلك". وأذكر أنني كتبت مقالاً آخر في الجريدة ذاكراً مقابلة جونسون لي وتحذيره بألاّ نُقدم على هذه الجريمة وإنه يجب أن نقبل بالمشروع فنأخذ قسماً من مياه المشروع ويأخذ الإسرائيليون القسم الآخر، بدلاً من أن يأخذوه هم كلّه عنوة وغصباً ونحن غير قادرين على منعهم من ذلك. هذا مثال من أمثلة لا تعدّ ولا تحصى على ما يفعله أولئك الذين اعتنقوا الأفكار الإنقلابية السلبية فأضاعوا على البلاد فرصاً عظيمة، وذلك منذ سنة 1919 إلى اليوم، وأخّروها ما ينوف عن خمسين سنة أو ربما مئة سنة.

(05:28:35)
علاقة السياسيين بالضبّاط في سوريا وتجاوزات الدستور:

لقد كان السياسيون الذين تسلّموا مقاليد الأمور، مع الأسف، دون شجاعة وقناعة. لقد كان اقتناعهم في مجتمعاتهم الخاصة غير اقتناعهم في الشارع، فبدلاً من أن يسيروا أمام الشارع وأمام الغوغاء بجرأة مظهرين مبادئهم في سبيل المصلحة العامة ويقودوا الشارع ، على عكس ذلك، كانوا يسيرون وراء الشارع الجاهل. لقد كنت دائماً أسعى لأقرّب ما بين الحزبين، وكنت بالأصل من مؤسسي الكتلة الوطنية، ولكنّني عندما رأيت المواقف السّلبية تتكرّر، صعب عليّ السير في اقتناعاتهم الخالية من الشجاعة والجرأة، وذلك حرصاً مني على مصلحة البلاد وعلى ما أنا مقتنع به، وانسجاماً مع نفسيتي وآرائي، فاضطررت أن أنفصل عنهم وأسير على طرق مختلفة عن طرقهم وتوسلت الكتابة في جريدة الناس مبتدئاً بتدوين آرائي في المقالات الصحفية، خصوصاً بعد أن حاربوني كي لا أصل إلى المجلس النيابي بكل وسائل العسكريين. وأخذت أعبّر عن آرائي على صفحة خاصة من جريدة الناس ناصحاً لهم بكل إخلاص أن يسلكوا الطريق القويم وداعياً الحزب الوطني للإنضمام إلى حزب الشعب الذي أسسه رجال من حلب كانوا في الأصل من الحزب الوطني من جماعة ابراهيم هنانو الذي قدّمهم للشعب بالمظهر السياسي وكان على رأس هؤلاء السيد رشدي الكيخا وناظم القدسي وغيرهم من الحلبيين. وأخذوا يسيرون على طريق سلبي خوفاً من الشارع وتسلّموا الحكم وأصبح ناظم القدسي رئيساً للوزراء ورشدي الكيخا رئيساً للمجلس النيابي أما رئيس الدولة فكان المرحوم هاشم الأتاسي. وقد كنت دائم الحرص على توجيههم سياسياً منبّهاً إياهم ألاّ يفسحوا المجال للضباط الإنقلابيين فيتسلّم هؤلاء مقاليد البلاد فرجال الحكم هم المسؤولون قانونياً ودستورياً. ولكن في الحقيقة لم يكن في يدهم من الأمر شيء، كانوا صور ودمى والضباط هم الذين يفعلون ما يريدون. وكانوا يزعمون بأنهم يروّضون الضباط بالحكمة. ولكن القضية لم تكن تحتاج إلى حكمة ومراعاة، بل إلى جرأة ومغامرة. وقد كانت القضية في بادىء الأمر مغامرة بسيطة جداً لا تتناول إلاّ عدداً من الضباط على عدد الأصابع المغامرين. فمرسوم جدّي واحد كان يكفي لإخراجهم من وظائفهم وإلقائهم في الطريق أو خارج البلاد. ولو فعلوا ذلك لاستراحت البلاد وانتهت من شرّهم. إن مسلك جماعة حزب البعث تلك الطريق الأعوج أوصل البلاد إلى حالة يرثى لها. ثمّ إن المشاحنات وقعت بينهم وبين الحزب الوطني، وبذلت جهدي لتوحيد الحزبين فهما بالأساس من منبع واحد ولا تجوز هذه التّفرقة التي من شأنها إفساح المجال إلى المزاحمات بين الحزبين وبالتالي إلى دخول الضباط الإنقلابيين المغامرين إلى الحكم بعد أن سهّلوا هم أنفسهم الطريق لهم. كذلك في هذا المعنى صرفت جهداً كبيراً ولكن دون جدوى مع الأسف.

(05:36:13)
س ـ من هم الأشخاص الذين كنت تتعامل معهم وهم من رأي واحد؟

ج ـ بالحقيقة كانوا قلائل جداً. لقد كان الكثير منهم مقتنعين برأيي ويقدّرونه ويعرفون أن فيه المصلحة للبلاد. ولكن قلّة الجرأة وقلّة الإقدام والخوف من الضباط جعلاهم يتصرّفون بما تصرّفوا به. لقد كنت وحدي في المجلس النيابي. فكنت لما أتكلّم عن العسكريين يشير ناظم القدسي إليّ بألاّ أتكلّم بمثل هذا الكلام خوفاً من الآخرين. وكذلك كان يفعل رشدي الكيخا. أما أكرم الحوراني فقد كان سفير الجيش وسفير الإنقلابات. كان يقوم من مكانه مثل القرد النطاط بمحلّه ويصرخ في وجهي غاضباً كيف أتكلّم عن الضباط بمثل هذا الكلام. وكثيراً ما كنت أُمنع عن الكلام، غير أني كنت أصرّ وأشعر بأني مضطرّ إلى أن أتكلّم، مع علمي بأن الدولة جميعها معهم من رئيس المجلس ورئيس الوزارة إلى رئيس الدولة. ولكنني أصرخ ألاّ تخافوا فكل شيء بيدكم. عندما كنت أتكلّم كان أكثر النواب يطأطئون رؤوسهم على الطاولات وعينهم شاخصة بالباب بانتظار دخول رجال الشرطة العسكرية ليأخذوني إلى السجن. كان الخوف إلى هذه الدرجة مسيطراً عليهم حتى أن أعضاء حزب الشعب كانوا أحياناً يخرجون ويتركونني أتكلّم على المنبر، ثم تُرفع الجلسة. وذلك كي لا يقعوا تحت أي لوم. أما أنا فكنت أستمرّ بالكلام معلناً أنني لن أتوقّف حتى تعود الجلسة إلى الإنعقاد وأتابع كلامي. وذات مرّة وقعت حادثة من هذا القبيل فقد كان الدكتور النائب منير العجلاني قادماً إلى المجلس فخطفوه وأخذوه إلى السجن وكان ذلك حين كان الشيشكلي رئيساً للأركان، فقلت لهم: "ها هو نائب من نوابنا ورفاقنا يؤخذ عنوة تحت الحراسة إلى سجن المزّة مهاناً. إنّ الدستور يعطي النائب حصانة فلا يجوز أن يوقف نائب دون أن تُرفع الحصانة النيابية عنه بقرار من المجلس النيابي. إن هذا العمل هو ضربة للمجلس والدستور يوضع أمام كل نائب ولا يجوز إهانة هذا المجلس. وذكرت لهم قصة حدثت لي في الصغر. ففي المدارس التركية كان الطلاّب الصّغار عندما يريدون الذهاب إلى المرحاض يقولون للأستاذ "دستور" ومعنى ذلك في التركية، "إسمح لي بالذهاب إلى المرحاض وكان الأتراك يجيبون "دستور حاشا من الحضور" وهكذا سوف يصبح الدستور عندنا "حاشا من الحضور" هل أوراق هذه اسمعوا مني وخلّينا نبعثها إلى التواليت تلزم هناك أكثر إن أنتم سكتم وبقينا على هذه الحالة المهينة. وقد كتبت مقالات كثيرة حملت فيها حملات شديدة على الوضع وعلى الشيشكلي والحكم الطغياني الهمجي. كان هدفي من تقريب الحزبين أحدهما إلى الآخر وزيادة قوّتهما وليس مزاحمة الواحد الآخر، ولكن مع الأسف لم يسمعوا مني. سأخبركم الآن قصّة عن عدنان الأتاسي صديقنا سمعناها لما كنا باسطنبول سنة 1958 عندما كانت تجري المحاكمة المشهورة في العراق برئاسة المهداوي، وهي أسوأ محاكمة حدثت في التاريخ قامت في العراق، وقد أصبحت قدوة للمحاكمات في مصر وسوريا، سأل رئيس الوزراء المهداوي قائلاً: "بتاريخ كذا كنت مجتمعاً مع عدنان الأتاسي بمكان ما في لبنان. ماذا جرى بينكما"؟ قال له: "كان ينصح لي ألاّ أتورّط بجرأة حسني البرازي". لقد سمعنا ذلك أثناء المحاكمة. أخيراً رجع عدنان الأتاسي وجماعته، وقد كان من رؤساء حزب الشعب، ولكنه كان مع الأسف جباناً مع ما هو عليه من ثقافة وأخلاق واتّزان. لقد كان شبح الجبن والخوف من الضباط يخيّم عليه كما كان يخيّم على بقية رجال حزب الشعب. وعندما كنت أنصح له ان هذا الخوف الذي يتصوّره في عقله نتيجته الوبال تتصوّره عقل حكمة يا عدنان بك إنما ما هي عقل حكمة وإنما سينالك وينال أبوك. لأن أباه كان رئيس الجمهورية وكان محترماً من الوطنيين الأشراف وكان ابنه عدنان محظياً عنده والده يسهّل أموره. غير أن والده كان أجرأ منه مع ما هو عليه من تقدّم في السنّ. كنت أنصح له قائلاً: "سترى يوماً أن الحكمة التي تنتهجها لن تفيدك نتيجتها شيئاً، فسوف يضربون أباك ويضربونك ثمّ يضربون الحزب وأخيراً سيضربون البلاد وينكرونها هذه تستلزم عملية جراحية وأنتم إذا لم تستطيعوا إيقافهم قبل فوات الأوان وإذا لم يكن عندكم الأشخاص الذين يحملون هذه المسؤولية، سلّمونا إياها. إن هذه العملية لا تدعو إلى الفرح فالإقدام على الحكم مكان الضباط الخونة الإنقلابيين مثل أتون من النار. إن رغبتي ليست إذن بالحكم بل بإنقاذ البلاد من مثل هذا الحكم، وستندمون على أعمالكم وعلى سكوتكم على هذه المآسي والمصائب التي تحلّ بالبلاد من جراء فتح الباب للإنقلابيين ولأكرم الحوراني ورفاقه الشيوعيين والناصريين أيضاً. غير أن كلامي لم يلاقِ أي تجاوب.

(05:46:44)
محاولات توحيد العراق وسوريا:

على كل حال كنا نشتغل للتوحيد والإتحاد بين العراق وسوريا بشكل من الأشكال، لأن الشكل الطبيعي للوحدة أو الإتحاد هو برفع الحدود ما بين الخليج الفارسي أو العربي والبحر الأبيض المتوسّط. الشيء الطبيعي هو أن يكون بين سوريا والعراق هذا الإتحاد، أما الإتحاد أو الوحدة بين مصر وسوريا فهي غير طبيعية.

(05:47:19)
س ـ هل للوحدة أية علاقة بالهلال الخصيب الذي يقول به القوميون السوريون، وهل كنتم تعملون معهم؟

ج ـ كلاّ لم يكن لها أية علاقة بذلك. ونحن لا نتعامل معهم، غير أن صحيفتي كانت تدافع عنهم لأنهم كانوا يُضطهدون اضطهاداً عنيفاً، ثمّ كانت تُقام الإحتفالات للتّشهير بهم.

كنت دائماً أستغلّ علاقاتنا العائلية لكي أسدي النّصح لعدنان الأتاسي ولكنه لم يكن ليمتثل للنّصح. قلت له إنه سيعرّض نفسه ووالده والبلاد للخطر. وكان العراقيون في وقت من الأوقات مستعدّين لإنقاذ المجلس النيابي من الضباط العسكريين.

(05:49:04)
س ـ مع مَن كانت تجري تلك المحادثات حتى أنكم علمتم أنهم يريدون مساعدتكم؟

ج ـ مع رجال العراق السياسيين أمثال نوري السعيد وفاضل الجمالي وصالح جبر أي مع رؤساء الوزارات ووزراء الخارجية. وقد اتّفقنا مرّة مع فاضل الجمالي رئيس الوزارة ووزير الخارجية العراقية آنذاك، على أن يؤخذ من هاشم بك الأتاسي رئيس الجمهوري ورقة صغيرة غير رسمية يطلب فيها على الصعيد الدولي النجدة إذا لزم الأمر. وقد أقنعت هاشم الأتاسي بذلك. كما أقنعت ابنه على إجراء عملية إنقلاب بمساعدة الجيش العراقي للتخلّص من الضباط المسلّحين. وبعد الإتفاق مع عدنان بك بعد جهود طويلة، ذهبنا إلى برمانا في لبنان حيث كان فاضل الجمالي نازلاً، وذلك لكي نعطيه الورقة الصغيرة الذي كان بانتظارها لتنفيذ العملية. وهناك فوجئنا بعدنان يعدل عن الفكرة ويقول لفاضل الجمالي: "الرجاء أن تهيئوا لنا مشروع إتّحاد بين العراق وسوريا ونحن نهيّىء لكم مشروعاً مقابلاً ثمّ نقابل المشروعين". ونحن لم نكن بهذا الوارد كنا نحضّر لعملية إنقلابية يساعدنا عليها العراقيون. فهي عملية مشروعة من أجل إنقاذ البلاد وتخليص الحكم الشرعي من طغمة المتمرّدين الإنقلابيين. وغضبت على هذه البادرة من عدنان الأتاسي غضباً شديداً وعاتبته قائلاً إننا لم نأتِ لهذه الغاية. في النهاية خرجنا مختلفين ورجع فاضل الجمالي إلى بغداد وضاعت علينا هذه الفرصة.

ومرة ثانية وكنت أثناء حكمي قد فكّرت بهذه العملية وأردت تنفيذها فكتبت إلى نوري السعيد كتاباً قلت فيه: "إني اليوم رئيس الوزارة ووزير الداخلية ولكن ليس بيدي السلطة على الدرك والشرطة والعسكريين الذين يساندهم الفرنسيون. فإذا كان باستطاعتكم أن تساندوني ولو قليلاً فإنني أقوم بهذا الإنقلاب ونخلّص البلاد من الوضع الذي هي فيه". في أثناء ذلك كان الجنرال ديغول وكولي وكاثرو هنا وذلك بعد أن انهزمت فرنسا في الحرب واحتلّها الألمان. فأرادوا ان يجعلوا بلدنا بلد احتلال. هناك يضيعون بلادهم وهنا يحتلون بلادنا ويستمروا بالإحتلال . وقد كان هدفي من هذه العملية أن نخلّص بلادنا من الإستغلال ونحقّق الإستقلال. (وكنت قد أشرت سابقاً إلى خلافي مع رئيس الجمهورية تاج الدين الحسني بهذا الموضوع. وكان مدار الخلاف إنه لا يجوز أن نسلّم بلدنا لحكم الفرنسيين في حين إننا أتينا نحن إلى الحكم بناء على تعهّد بريطانيا وعلى بياناتها وإذاعاتها ومنشوراتها التي سبقت دخول بريطانيا البلاد، بتحقيق إستقلال سوريا. فيجب إذن ألاّ نتساهل بهذا الموضوع). وقد أخذ السفير العراقي كتابي وحمله إلى بغداد، ولكن الكتاب، مع الأسف، أُهمل بعض الشيء، فلم يتجاوب معه المرحوم نوري السعيد. إنما تهيأ للأمر، فكتب إليّ كتاب شكر على الجرأة والإخلاص واعداً إنه سيدرس القضية مع الوصي مع العلم أن الوصي رجلاً غير مضطلع على الأمور السياسية، عنيداً في تفكيره... وهكذا ضاعت هذه الفرصة ايضاً. وعلى ذكر الوصي، أتى سنة 1958 إلى استانبول مع الملك فيصل المرحوم فيصل الصغير وكنت آنذاك هناك نازلاً في فندق هيلتون. واجتمعت به مراراً، ومعي بعض الرفاق من النواب. وكنت أسدي له النّصح محذّراً من وجود حركات إنقلابية في العراق ولكنه لعناده الشديد لم يقبل مني النصيحة.

(05:56:03)
س ـ ألم تعتقد إنهم لم يسمحوا للجيش بالذهاب إلى سوريا لأن ليس عندهم قوّة كافية لذلك؟

ج ـ كلاّ، فلم يكن عندهم إنقلابات يومها. كان بإمكانهم أن يرسلوا لنا قوة عسكرية، ولكنهم تهيّبوها وأهملوا ذلك. وقد يكون السبب أن قسماً منهم كان مع هذا الأمر والقسم الآخر كان ضدّه. عندما تكلّمت مع الوصي في استانبول قلت له إنّهم مثلنا في خطر أنا أنصحكم بخصوص الجيش العراقي، انا أسمع ولو أنني لست بعسكري، أسمع بإمكان وقوع إنقلاب ما. وكان يغضب ويقول لي إني على خطأ فإذا كان في الجيش السوري عصابات فالجيش العراقي جيش منظّم غير قابل لهذه الأمور. وكنت أؤكّد له احتمال وقوع إنقلاب في العراق ولذلك فلن يخسروا شيئاً إذا أخذوا الإحتياطات اللاّزمة لذلك. وقد باحثته بالموضوع في جلسات كثيرة وأصررت عليه وعلى نور السعيد نفس الحديث بوجوب أخذ الإحتياطات فلما لم أرَ تجاوباً بل كانوا يعتبرون ما أقوله إهانة حتى قلت له: "لن أبحث معكم بالأمر بعد الآن ولن تصدّقوا صحة كلامي حتى تروا العسكريين الإنقلابيين والناصريين بأمّ أعينكم في شارع الرشيد في بغداد. وعندئذٍ ستؤمنون بما أقول". وهذا ما حدث. كانوا قد تركوا استانبول في 10 تموز ووقع الإنقلاب في 14 منه. أي لم يمضِ على رجوعهم إلى بغداد أكثر من 4 أيام حين وقع الإنقلاب الذي كنت أنتظره وأنبّههم عليه. وكان من بين المرافقين للوصي في استانبول رئيس أركان الجيش الفريق عارف فكان يسمع كلامي فيقول إنه يعدّ ذلك إهانة للجيش العراقي. أما في سرّه فكان يسخر منهم وكانوا هم يسخرون مني بدورهم وبقوا على هذه الحالة إلى أن أودع بعضهم السجن وقتل بعضهم الآخر ووقعت المجزرة أمام القصر الملكي. وقد أصابت العراق على أثر ذلك الإنقلاب مآسٍ ومحن وشدائد، وما تزال تقاسي من ذلك. هذا ما حدث للعراق.

نعود الآن إلى سوريا بعد الحديث الذي جرى بيني وبين عدنان الأتاسي وإلى خيبة الأمل الذي أصابتني من جراء ذلك. عندما تألّفت الحكومة وذلك بعد ذهاب الشيشكلي تفاءلنا خيراً. ولكن عاد ووقع الإنقلاب قبل خروج الشيشكلي (من البلاد العربية). فأخذ هاشم الأتاسي إلى حمص للمرة الثانية، وألقى القبض على عدنان الأتاسي ومنير العجلاني وغيرهما وأذيق الجميع من المحن والضغط والإرهاب والإهانات ما لا يوصف. وهكذا وقع عدنان الأتاسي بما كان يخشاه. وكان السجن في عهد الحكم البوليسي لعبد الحميد السراج في حالة بربرية. وكانت المحكمة العسكرية برئاسة عفيف البزري. فمع كونه ضابطاً شيوعياً في الجيش السوري كان لبناني الأصل من صيدا وكان شيوعياً أحمق آراؤه العناء والتعب لمصالح البلاد الوطنية. وقد انتُخب في أيام عبد الحميد السراج لرئاسة المحكمة العسكرية فكان نظير المهداوي في بغداد. كان عندنا عفيف البزري في محاكماته وتهجّماته وفي قلة ذوقه وقلّة أدبه واحتقاره للموقوفين ومنهم عدنان الأتاسي بشكل مهين. وقد بقي عفيف البزري في سوريا حوالي ثلاث سنوات، ثمّ تمّت الوحدة بين مصر وسوريا فنقله عبد الناصر إلى مصر ووضعه تحت الإقامة الجبرية في بيت يقع بين الإسكندرية والقاهرة. فآمن عندئذٍ عدنان الأتاسي بما كنت أقول له بعد ان رأيته بعينك ولكن بعد فوات الأوان وكلفتنا الكثير. ولكن عندما وقع الإنقلاب على الوحدة وتمّ الإنفصال أُطلق سراحه فأتى إلى بيروت وكان ذلك سنة 1961.

(06:04:41)
س ـ كم سنة بقي عدنان الأتاسي هنا؟

ج ـ ما يزال هنا فالحكم ظلّ يلاحقه، إنما سمحوا له بالمجيء إلى لبنان بعد الإنفصال. عندما كنت أذكّره بما حدث كان يقول لي: "لو قمنا بتلك العملية (عملية الإتحاد مع العراق) لاعتبر والدي خائناً لوطنه". غير أن الحقيقة أن الضباط الأشقياء المتمرّدين الذين يقومون بالإنقلابات غير المشروعة ويغتصبون الحكم الشرعي من والده هم الخونة. فيجب أن تقوم عليهم عملية إنقلاب. ويكون الإنقلاب عليهم مشروعاً. فانقلاباتهم غير المشروعة إنما هي عملية تمرّد وعصيان. وهكذا كنت أنبّههم إلى جميع هذه الأمور، ولكنّهم كانوا لا يؤمنون بها إلاّ عندما تحدث، فيقولون هكذا قال حسني البرازي ويا ليتنا سمعنا كلامه.

(06:06:19)
س ـ هل كان هدفكم أن تكون الوحدة بين العراق وسوريا على غرار الوحدة التي تمت بين مصر وسوريا؟

ج ـ كلاّ. بشكل إتّحادي. فكل بلد يبقى مستقلاً ويتمّ الإتّحاد بينهما من أجل المصالح الإقتصادية والتجارية، وتكون الحدود واحدة تخدم القطرين ولكن مع الأسف لم تتمّ هذه الوحدة بل تمّت وحدة مبتورة بين مصر وسوريا لا يجمعها شيء فأدّت إلى هذه النتائج الوبيلة هذه وضاعت الفرصة حتى أصبحت كلمة "الوحدة" التي كانت هدف عربي، مرعبة لا يتمناها أحد ولا يقبلها، لكثرة ما جرّت من المآسي وسوء الإستعمال. لقد أصبحت وسيلة للسلب والنهب والتحكّم والطغيان.

(06:07:41)
العلاقات اللبنانية – السورية:

(06:07:41)
س ـ الرجاء أن تخبرنا عن علاقات سوريا بلبنان.

ج ـ في سنة 1958، وكانت الوحدة لا تزال سارية المفعول، وكنت قد تركت سوريا وأتيت إلى لبنان، فهل سوء القصد والأذى للبنان بدأ ينتشر من جهة عبد الحميد السراج. كان هدفه توجيه عبد الناصر لتخريب لبنان. فقد كان يصعب عليهم أن يروا أن في أكثر البلدان العربية مثل مصر وسوريا والعراق أحكاماً عسكرية إنقلابية في حين أن الوضع في لبنان ساكن هادىء والحكم نيابي دستوري. كان يصعب عليهم وعندما كنت في المجلس النيابي كنت دائماً في جهة لبنان، بينما كان قسم كبير من النواب السوريين يفاخرون بأنهم ضدّ لبنان. كنت الوحيد الذي يدافع عن لبنان وعن سيادته واستقلاله وأقول أن لبنان يجب أن يكون سويسرا العرب ما يدخل بهذه القصص والدسائس والإنقلابات، ومن الضروري أن نسعى لأن يكون دائماً بعيداً عن ذلك.

لقد ذكرت سابقاً كيف خدمت لبنان بموضوع الميرى وكيف جعلت مصلحة لبنان واحتياجاته للتغذية قبل سوريا. لقد ساعدت لبنان في الميرة وكيف حسبته وطني الثاني وكنت أقول إن لبنان سيكون ملجأ العرب فيجب أن نحافظ عليه وندافع عنه. وأذكر أنه تكريماً لهذه البادرة، أقام لي المرحوم سامي الصلح حفلة تكريم كبيرة لشكري لخدمتي للبنان في أوتيل نورماندي. وقد حضّر له خطاب للشكر ألقاه في الحفلة. وقمت أنا جاوبت قلت: "هذا واجبي ومن أولى واجباتي. أعدّ لبنان وطن ثاني لي وأن لبنان سويسرا العرب وهذا دائماً مرجع للعرب بكل الأقطار العربية ويجب أن تكون حدود بلاده مقدّسة وأن تكون بعيدة عن هذه النزعات والقصص التخريبية".وقد كانت لغة سامي الصلح العربية ضعيفة وأذكر أنهم مبالغة بالتكريم والشكر لي وضعوا في خطابه أبياتاً للمتنبي مستشهدين بها، لعلمهم بمحبّتي لهذا الشاعر. ثمّ قمت بدوري ورددت على الخطاب قائلاً إنه من واجبي أن أفعل ما فعلت. وقد كنت أحبّ المتنبي فكنت كلما كتبت في جريدة الناس أختم مقالتي بأبيات له. وكنت عندما أرتجل خطاباً أستعين بأبيات للمتنبي وهكذا كان هذا الشاعر يساعدني كثيراً في خطبي. ومن جملة الأبيات التي وردت في خطاب المرحوم سامي الصلح بيت معقّد للمتنبي تكريماً لي وهو على ما أذكر:

إذا فُلّ عزمي عن مدىً خوفُ بُعده فأبعدُ شيءٍ ممكنٌ لم يجدْ عزمَهُ

بمعنى انه العزم مع العزم الحزم انه كلّ شيء صعب بصير إذا ما بده يصير عزم وحزم حتى أهون شييء ما بصير. ولم يستطع سامي الصلح بضعف لغته العربية ولعدم تحريك البيت أن يقرأه فقال: "بفضل همّة حسني البرازي تأمّنت الحاجة فلكل بيت حوالي 20 كيلو"، ثمّ قال: "وكما قال المتنبي لكل بيت 20، 30، 40 كيلو. فعرفنا أن الذي حضّر الخطاب كان الأستاذ تقي الدين الصلح. وقد قال المرحوم الصلح أنه وضع عمداً هذا البيت ليوقع به في هذه الورطة.

بدأت الدسائس سنة 1958. وكان عبد الحميد السراج ينفق البلايين من أموال سوريا. وكانوا يرسلون الفوضويين والشيوعيين والإنقلابيين إلى لبنان ويعرّضوننا للإغتيال. أذكر أنه عندما كنت ساكناً في بناية الصمدي قرب اوتيل بريستول، جاؤوا وهدّدونا وهدّدوا الصمدي صاحب البناية وقالوا له: "حسني البرازي ضدّ عبد الناصر وضدّ الحكم السوري الإنقلابي ولذلك سنضرب البناية. فاضطرّ صاحب البناية صديقنا هو إلى أن يطلب مني ترك البناية، فتركتها وذهبت إلى استانبول في الـ 1958 أثناء الحوادث.

(06:16:04)
س ـ فإذن ذهبت إلى استانبول مرّة ثانية؟

ج ـ نعم، ذهبت مرة ثانية أثناء الحوادث والإضطرابات التي جرت سنة 1958. كان الرئيس كميل شمعون رئيس الجمهورية الأسبق يظهر لنا من العطف والولاء والإحترام فلم يجعلنا نشعر أثناء ولايته بأننا غرباء. ولكن بعد تهديدات عبد الحميد السراج وتدخّلاته وإرساله أجراءه للإغتيال أصبح الموقف محرجاً للرئيس ولنا فاضطررنا إلى الذهاب غلى استانبول حيث بقينا سنة إلى أن هدأت الأحوال فرجعنا. وكانت قد بدأت حركة القوميين السوريين فأخرج بعض الرجال السياسيين السوريين من لبنان وازدادت بذلك نوايا الضباط العسكريين السوريين الشريرة والسيّئة على لبنان. وزاد الطين بلّة عندما أتى الجيش الأميركي لهنا والمحققون أظن مورفي كان واحد منهم وجاءوا محققين من قبل هيئة الأمم فكانت شهادتهم إنه لا يوجد أي تسلّل من الضباط الإنقلابيين السوريين إلى لبنان وكان ذلك بمثابة دفاع عن عبد الحميد السراج وجماعته مع ان تهريب السلاح كان على المكشوف. فقد كان السلاح يُهرّب إلى كمال جنبلاط وغيره من المتضامنين مع عبد الحميد السراج والحكم العسكري بسوريا. ولكن تقريرهم هذا كان مع الأسف مضراً بحقّهم وبحقّ سوريا في حين إنه كان من المنتظر أن يكونوا العون الأكبر لسوريا. صاروا عون على سوريا مع هل ضباط وهكذا اغتصبوا الحق الشرعي في البلاد وأصبحت تقاسي من الإستبداد والإضطهاد ما لا يُحتمل.

(06:18:50)
جريدة الناس وملخّص عن مقالات البرازي:

(06:19:00)
س ـ هل باستطاعتك، حسني بك، أن تخبرنا عن جريدة الناس، وعن المقالات التي كانت تُنشر فيها؟

ج ـ كنت دائماً أتوخى بمقالاتي في الجريدة أولاً إبعاد الجيش عن السياسة لما في ذلك من نفع لكلا الجيش والبلاد، كما كنت أتوخى ثانياً إبعاد الشيوعيين عن البلاد. وكان يمثّل الجيش من المدنيين أكرم الحوراني فقد كان رأيه وهدفه الإستيلاء على الحكم عن طريق الجيش أي عن طريق القوة والدكتاتورية. لذلك كان يدافع بكل قواه عن دكتاتورية الجيش. وكنا دائماً في جهاد ضدّه وضدّ من يشدّ أزره من الجبناء. كنا في المجلس النيابي ويا للأسف زميلين بصفة كوننا كلانا نائبين عن حماه. ولكن كنا أنا في واد وهو في واد. ومع أن الأكثرية في المجلس النيابي كانت لحزب الشعب لم يجرؤ على مجابهة أكرم الحوراني لأن الجيش كان وراءه. فإذا خاصم حزب الشعب أكرم الحوراني خاصم الجيش في حين إنه لا يريد ذلك لأنه في غاية الجبن والخضوع أمام هذه الدكتاتورية العسكرية. وكم من قصة تُعدّ من غرائب القصص حدثت في المجلس النيابي: منها على سبيل المثال اليمين الدستورية. كل نائب مجبر أن يقسم اليمين بالمحافظة على الدستور قبل بدئه بالعمل. وكنا قد نظمنا في المجلس السابق صيغة للقسم على الدستور وقد أقسمه جميع النواب ما عدا أكرم الحوراني الذي تمرّد عليه وقال: "أنا لا أقسم". لأن في صيغة القسَم موضوع الوحدة العربية وموضوع الإستقلال، فمع ادّعائه إنه من دعاة الوحدة والإستقلال كان يناضل ضدّ الوحدة والإستقلال والسيادة الشرعية بصورة دائمة. وقد ذكرت في إحدى مقالاتي هذا القسَم الذي أدّاه جميع النواب في المجلس النيابي كما جرت العادة في جميع برلمانات العالم، فالنائب ليس له الحق بممارسة نيابته إلاّ بعد أن يقسم هذا القَسَم على الدستور. أما أكرم الحوراني فتمنّع عن أن يقسم اليمين لأني أنا نظّمت صيغة هذه اليمين وضمّنتها عبارات عن الإستقلال والسيادة الشّرعية والحياة البرلمانية والوحدة العربية. وبطبيعة الحال كانت هذه الصيغة لا توافقه، فتمنّع. وطالبت مراراً بهذا الأمر رئيس المجلس النيابي رشدي الكيخا أو ناظم القدسي إذ انضمّ أكثرية حزب الشعب لهما. غير أني كما أشرت سابقاً، كانوا جبناء متخوّفين مع الأسف. وقد وصفت أكرم الحوراني بسفير الجيش والمتكلّم باسم الجيش ومع ذلك لم يجبراه على أن يقسم اليمين مع أن الأصول تقضي بأن يقسم كبقيّة النواب وإلاّ عليه أن يترك المجلس. ولكنه بقي في المجلس لآخر ساعة دون أن يقسم. وعندما جاء المجلس الثاني حاول أن يتمنّع أيضاً. عندما امتنع في المرة الأولى كتبت مقالة خاطبته فيها قائلاً: "كيف تدّعي الحريات وهذا القسَم يدور على حريّات البلد. وكيف تطلب سيادة البلاد واستقلالها وتدّعي أن الوحدة العربية من أهدافك وأنت تبرهن العكس. وقد كتبت مقالاً آخر تحت عنوان "متناقضات الحوراني"، وكان ذلك في 4 تشرين الثاني سنة 1954، بيّنت فيه إن هذا الرجل إنما هو عدوّ البلاد.

(06:27:00)
س ـ هل باستطاعتك، حسني بك، أن تذكر لنا ملخّص كل مقالة كتبتها، والمناسبة التي نشرت فيها؟

ج ـ مقال، "مَن يتعاقد" نشرته بمناسبة تأليف الحكومة برئاسة فارس الخوري. بعد أن نالت الحكومة الثقة قام أكرم الحوراني وعارضها، مع انه مُنحت الثقة وكانت تمثّل المجلس النيابي. ثمّ طلب تقييدها بشرط هو ألاّ تتعاقد ولا تتفاوض. ذلك لأن هدفه كان الشيوعية والحكم العسكري فلم يرد أن يظهر الحكم النيابي قوياً. ولم يؤيّد الحكومة لأنها كانت ضدّ رأيه بهذا الموضوع وضدّ أهدافه: وهي الديكتاتورية والشيوعية ومخالفة الحكم الدستوري. فكانت هذه المقالة بهذا العنوان.

أما مقالة "عقائديون أم عقيديون" فتدور حول الموضوع التالي: إنهم يدّعون بأنّهم عقائديون. أما أنا فأثبت مع البرهان إنهم بعيدون كل البعد عن العقائدية. وقد أثبتّ في هذه المقالة إنهم جماعة أبعد ما يكون عن العقائديين فهم ليسوا بعقائديين بل هم عقيديون، بمعنى إنهم صبية غير متكاملين لا مبدأ ولا عقلاً ولا سياسة ولا رشداً، إنهم جماعة من أهل العقيدة التي تستعمل لرفع الشعر.

أما مقالة "حسين فاطمي والنكبة" فهي بمناسبة إعدام حسين فاطمي في إيران ومؤداها إننا نخالفه ونبكيه. فنحن لا نريد إعدامه لأنه من رجال إيران الأفذاذ لذلك نبكيه من هذه الجهة مع أننا نخالفه من حيث المبدأ لأنه كان مع مصدّق. حملت على مصدّق يومها لأنهم أضرّوا بالعراق.

وفي مقالتي "إلى جلالة الملك سعود" ذكرت إن عقيدتنا بالوحدة العربية لها مناهضون كثر من جملتهم مع الأسف الحكم السعودي. كانت هذه المقالة تتعلّق بالوحدة. قلت فيها إننا نشتغل في سبيل إتّحاد العراق وسوريا لأنه اتّحاد طبيعي نسبة للحدود الواحدة وللخليج الفارسي والبحر الأبيض المتوسّط. وبذلك نكون نواة لدولة عربية منسجمة من حيث حدودها وأراضيها وشعبها. وكان هناك في ذلك الوقت للأسف مشاحنات وخلافات بين السعوديين والهاشميين حتى أصبح عند السعوديين عقدة تجاه العراق وعلى رأسه في ذلك الوقت الهاشميون. فوجّهت كلمة للملك سعود بأنه لا يجوز أن يبقى عقَبة في سبيل الإتّحاد. فإذا كان قد مرّ وقت كان فيه والهاشميون على خلاف، ففي سبيل الوحدة العربية عليه أن ينسى الآن هذا الخلاف.

(06:33:53)
أكرم الحوراني والحكم العسكري:

لنعد الآن إلى أكرم الحوراني والقسم. سبق وذكرت بأن حزب الشعب لم يجسر على إجباره أن يؤدّي اليمين أو يترك المجلس، فبقي إلى آخر مدة المجلس ممتنعاً عن أداء اليمين. وعندما شكّل المجلس الثاني أراد أكرم الحوراني بتأثير تلك الروح ذاتها وبخلاف الأحكام النيابية الدستورية والوحدة، أراد أن يقيّد الثقة بالحكومة بعدم التفاوض والتعاقد بشكل لم ترَ مثله حكومة من الحكومات ولا مجلس من مجالس العالم. وهذا يدلّ على أن روحية هذا الرجل كانت روحيّة مؤذية جانية مجرمة، فقد كانت سبباً لخراب البلاد وجرّ المصائب والويلات عليها مع إنه يدّعي عكس ذلك غير ان حقيقته هي إنه دعي من الأدعياء ولم يكن يوماً صاحب مبدأ ولا عقيدة. وقد أدّى به هذا الوضع بمساندته للعسكريين إلى مساندة الأحكام العسكرية والعسكريين معاً. فقد اشترك في جميع الإنقلابات التي وقعت، اشترك فيها واشترك في عكسها، اشترك في انقلاب حسني الزعيم على شكري القوتلي في حين كان شكري القوتلي يرعاه بعاطفته خوفاً وجبناً منه ومن العسكريين. كذلك اشترك في انقلاب الحناوي على حسني الزعيم وفي انقلاب أديب الشيشكلي على الحناوي. وأخيراً بعد أن مضى عهد الشيشكلي وتمثّلت المآسي في عهده ككل الحكام العسكريين الدكتاتوريين، أراد هو أن يتسلّم الحكم. لكن كان أديب الشيشكلي حذراً من أكرم الحوراني فلم ينفّذ وعده للحوراني بتسلّمه الحكم في سوريا. وكان الحوراني يرغب بتسلّم الحكم ليتسنّى له تطبيق المبادىء الهدّامة على البلاد ويقوّي النزعة الشيوعية فيها ويصل إلى أهدافه بنقمته وحقده على الناس وعلى القدر وعلى البلاد. وقد ساقته عقده النفسية إلى محاربة الشيشكلي في آخر عهده فأخذ يتّصل بعبد الناصر ويرسل له رسلاً عسكريين طبعاً بغية تنظيم الوحدة ولم يكن يهدف من وراء ذلك إلى الوحدة بل إلى حكم سوريا والإنتقام من المزارعين والملاّكين. فهو قد عاش في بيت ليس له أملاك زراعية واسعة وقد كانت تتقدم عائلته عائلات كبيرة في حماه تشتغل في الزراعة أباً عن جدّ، يملك كل فرد من أفرادها قرى كثيرة. وهكذا وضع الحوراني نصب عينيه القضاء على هذه الفئة والإنتقام منها حقداً وتشفياً لا حبّاً بالإصلاح الزراعي ولا بخدمة البلاد. واتّجه نحو مصر لتحقيق ذلك بربطه بموضوع الوحدة. وأنا كان أساساً رأيي في موضوع عبد الناصر عقب إنقلاب مصر لما ذهبت إلى مصر بدعوة من عبد الناصر دُعيت ورايت منه كل رعاية وكل إكرام كنت مع عقيلتي مدعو، دعو صحافيين لكن عوملت انا بشكل خاص من قبله هو واجتمعت معه إجتماعات عديدة 6ـ 7 مرات اجتمعت إجتماعات خاصة وفي حفلات وفي محادثات واتّصلت بجماعة ممن أعرفهم من رجال الوفد سراً لأنه كنت أنا مراقب هناك سيارة لي وسيارة لعقيلتي لكن كل واحد فيها مراقبين من أركان الإستعلامات فعملت كل السائل إني أتّصل برجال الشعب المصري الأوفياء الذين هم كانوا عماد للإستقلال الوفديين أقصد يذلك حتى العدليين الدستوريين عرفت منهم إنه كان الموضوع موضوع الإنقلاب العسكري سيودي بمصر إلى كل ضرر إلى كل نقمة كما يقول المصريون يرميها بداهية فخرجت أنا بقناعة بعد أسبوعين من الزمن من إقامتي في مصر. كان أول مقال إلي في جريدة الناس أيضاً "عهد البكابشة والصاغات" كان يقال له بكباشي القائد بكباشي وعبد الحكيم عامر يقال له صاغ وقلت أسميته حينئذٍ سنة الـ 1954 ناصروف وعامروف كما أسميت أكرم الحوراني حورانوف. وقتئذٍ كثير من إخواني استغربوا انه كيف هل قناعة تولّدت عندي هو رجل ما ظهر منه بعد هل مبادىء وهل أفكار قلت أنا اقتنعت بنتيجة أحاديثي معه نفسه وبنتيجة استقصائي للأحداث وللأوضاع السائدة هناك إنه هل رجل سيوصل البلاد المصرية أولاً وسيكون سبب لتهديم البلاد العربية الأخرى إنه عنصر مضرّ وعنصر مؤذي وكان ذلك وأثبتت الأيام فيما بعد صدق نظري وصحّة حدثي لهذه المواضيع وبدأت النكبات تتوالى على سوريا وعلى مصر والمحن والشدائد تحيط بها من كل جانب. ولما قطع الحوراني أمله من الإستيلاء على الحكم مباشرة أخذ يتآمر على نفس عبد الناصر، مع أن هذا الأخير جعله نائباً لرئيس الجمهورية ونقل بعض الأشخاص رفاقه العسكريين الإنقلابيين إلى مصر ولكن لم يكن لهم عمل هناك عبارة عن صورة. ولم يكن لأكرم الحوراني في منصبه الجديد في مصر اي عمل بل كان صورة فقط. ولما لم يستطع إقناع عبد الناصر بتسليمه الحكم في سوريا لأجل القيام بالإصلاح الزراعي انقلب ضدّه واصبح عدوّه اللّدود ورجع إلى سوريا مستقيلاً. أما عبد الناصر فلم يخفّف من أحكام الدكتاتورية العسكرية وبلاياها في سوريا كما كان يأمل الذين يُحسنون الظنّ به، فقد كانوا يأملون إنه رجل سيصلح البلاد وإنه سيخطو خطوات إلى الأمام وسيقضي على الأحكام العسكرية أو يخفّف منها، رجل دستوري نيابي فإذا به يخيّب أملهم ويجعل على راس الضباط الإنقلابيين عبد الحميد السراج، وبذلك قوّى عبد الناصر من إرهاب السراج وطغيانه وأعطاه كل المقوّمات والصلاحيات، وزوّده بالأموال الملايين الكثيرة لتقوية حكمه وحكم الطغمة الإنقلابية التي كان يقودها، فأصبح الحكم بوليسياً إرهابياً، خنق الناس، وإذلال الأمة والشعب وطعنها في كرامتها وفي حرياتها حتى صاروا يعدّوا الأنفاس على الناس، وضرب البلاد بزراعتها واقتصادها. هؤلاء هم العسكريون الدكتاتوريون، لا يستهدفون هدفاً وطنياً، ولا مبدأ عاماً. وكان عبد الحميد السراج مجرماً، قضى على الكثير من الأشخاص ضمن السراديب والمعتقلات الشبيهة بالمعتقلات النازية. أحدث في كل مدينة أقبية كثيرة يعذّب الناس فيها كي لا يسمع صوتهم. كان الضباط الإنقلابيين على صلة بالشيوعيين فقد كانت أساليب التعذيب أساليب شيوعية فيها التعذيب وفيها الإرهاب وفيها القتل فعملوا في كل بلد أقبية وأكثرها في دمشق ويكونوا معروضين لهذا التعذيب في الكيّ، والنارن والخوازيق، وتعليق الناس في أرجلهم ورؤوسهم مدلاّة، وكالحمامات الباردة في الشتاء، وقلع الأظافر وجلد الناس وهم عراة. وهكذا بدلاً من أن يرى الناس تحسناً بالحكم رأوا في عهد عبد الحميد السراج بحماية عبد الناصر رأت البلاد ما لم يره حتى في العصور المظلمة الأولى. وقد كانت زيارات الجنرال كيروف مدير الإستخبارات السوفياتية لدمشق متعدّدة فكان يأتي إلى دمشق ويجتمع بالسراج. وكانوا يستعملون أمرّ أساليب التعذيب، حتى إنهم استعملوا الأسيد في تذويب الأجسام، كما ذكرت سابقاً، كما فعلوا بجسد الرجل اللبناني نقولا شاوي*(ملاحظة: يقصد الرئيس حسني البرازي القائد الشيوعي اللبناني "فرج الله الحلو" وليس نقولا شاوي، فقد توفّي السيد نقولا الشاوي سنة 1983 بينما اعتقل فرج الله الحلو عام1959 من قبل المخابرات السورية وتم اغتياله). معروفة هذه الحادثة أخذوه وبعد التعذيب واتّصلت بهم الحكومة اللبنانية وكانوا ينكرون ذلك ولكن بعدها ثبت بالأدلّة القاطعة إنهم ذوّبوا جسمه بالأسيد بالشام.

(06:50:54)
العلاقات اللبنانية-السورية أيام حكم الشيشكلي:

س ـ عندما وقع الإنقلاب في سنة 1952 على أيام الشيشكلي أحدث اضطراباً في لبنان أيضاً. ذلك إن هدف الشيشكلي كان دخول لبنان بالقوة. فهل كان ذلك إشاعة أم إنه صحيح؟( 06:50:54)

ج ـ إن المؤامرة التي حاكها الضباط العسكريين في سوريا على لبنان وعلى إستقلاله هي بالأساس قديمة العهد. وقد بدأ الضباط منذ أيام حسني الزعيم واستمرّت بعد ذلك العهد إلى أن وصلت إلى عهد عبد الحميد السراج وأديب الشيشكلي بحماية عبد الناصر وعفيف البزري. فقد كان همّهم الوحيد التآمر على استقلال لبنان. كان يهمّهم ألاّ يبقى في بحبوحة من العيش ولا تكون الحريّات فيه سائدة وكرامة الناس محفوظة، ذلك إنه بعد هذه الإنقلابات أصبحت كل من سوريا ومصر والعراق تحت حكم عسكري إستبدادي فكان من طبيعة الحال أن تتضايق هذه البلدان من الوضع في لبنان فتعمل جهدها كي لا تبقي على الحرية فيه وعلى كرامة الشعب محفوظة. وكانوا يستعملون لذلك التهديد وقد يكونون قد رتّبوا للبنان عملية عسكرية غير أن ذلك لم يكن جدياً في نظري، لأن لبنان سرعان ما تنتقل قضيته إلى الصعيد الدولي. ففي أيام الدولة العثمانية كان لبنان إحدى متصرفياتها ومع ذلك كان متصرّفة مستقلّة تحت حماية الدول السبع ولذلك له هذا الظرف الدولي وقد أدّى ذلك إلى أن السوريين كانوا يخافون منه. وهكذا فالنيّة موجودة بشكل مستمرّ للتخلّص من هذا الوضع الذي يظهر الفرق جلياً بين بلد يعيش بسيادته وحياته النيابية وتجارته الحرة وأوضاعه الإقتصادية وسباقه مع الغرب وبين بلد يريد الإنضمام إلى الشرق وإلى الأحكام الشيوعية، ولذلك فقد أرادوا القضاء على إقتصاد البلاد العربية كلها وذلك بإجراءاتهم الزراعية والإقتصادية وبتأميماتهم التي كان يرافقها الإنتقام والأحقاد الشخصية وقد كانت هذه الإجراءات بالنتيجة وبالاً على البلاد وعلى اقتصادها. وقد كان الشيشكلي من جملة الذين راودتهم هذه الأفكار فكان يريد جمع ثروة على غرار ما فعل غيره من الضباط العسكريين الذين أودعوا ثرواتهم تلك مصارف أوروبا وجعلوا من أنفسهم طبقة أرستقراطية فاقت على الملوك السابقين. فلم يكن لفاروق وما يُحكى عن بذخه وقصصه ما وصل لدرجة البذخ والغنى الذي لعبد الناصر ولم يكن له القصور التي بناها عبد الناصر لكل ولد من أولاده على الشاطىء في الإسكندرية وجعل بيته في الظاهر متواضعاً في حين إنه عمل منه قصراً يفوق قصور عابدين والقبة وغيرها. وقد استهدف الضباط السوريون الأهداف ذاتها. فبعد أن انتهت أيام حكم الشيشكلي خرج بعد الإنقلاب عليه، من سوريا وسافر إلى سويسرا حيث شيّد بناية كلّفته مليون ليرة، ثم تزوّج سويسرية وانتقل إلى البرازيل آخذاً بتنمية ثروته، فشاد المزارع الهائلة وتعاطى تجارة الأبقار وغيرها من الحيوانات.

(06:57:07)
عملية الشيشكلي على جبل الدروز واغتياله:

(06:57:07)
س ـ قتله رجل سوري من جبل الدروز. كيف كانت معاملته لجبل الدروز ليقتله؟

ج ـ ظنّ أديب الشيشكلي إنه بضربه جبل الدروز يربّي البلاد ويخوّفها. وكان معه في ذلك العقيد شقير. ومع أنه درزي فقد كان أحد معاوني الشيشكلي الأشرار الذين جمعوا الثروات الطائلة من الأعمال العسكرية. وقد كان معاون شرير لأديب الشيشكلي وهو كان رئيس الأركان في عهد الشيشكلي. وهو الذي حرّض الشيشكلي على جماعته الدروز في جبل الدروز. فقد كانت هنالك حوادث بسيطة لا تذكر فاستغلاّها لتأديب جبل الدروز، مع كون الدروز وطنيين مخلصين، على رأسهم سلطان باشا الأطرش والأمير حسن الأطرش. إن زعماء الدروز معروفون بحبهم لوطنهم ولسوريا وللعروبة. ولقد كانوا في الحروب التي كان يشنها الأجانب خير عون للبلاد. ونحن جميعاً نعرف ثورة سلطان باشا الأطرش والأمير حسن الأطرش على الفرنسيين وقد ثاروا قبل ذلك وأبلوا بلاءً حسناً في هذا المضمار، وضحوا بحياة أبنائهم من أجل وطنهم.

(07:00:09)
حلف بغداد والإنقلاب في العراق:

لنعد إلى الحديث عن الشيوعية. كان كل قصدنا الإبتعاد عن الشيوعية والوقوف ضدّ الحكومات الشيوعية. وإني أرى أن من مصلحتنا الوطنية أن تسير بلادنا مع الدول الغربية حفاظاً على سيادتها واستقلالها وكرامتها. ومن الوجهة السياسية أرى أن نسير مع الغربيين كي يتسنّى لنا الخلاص من الشيوعية مع العلم أن الغربيين أنفسهم لم يقدّروا الموقف بل نراهم عكس ذلك، يقرّبون الجماعات الهدّامة ويقرّبون الشيوعيين ويولونهم من عطفهم ورعايتهم، أما نحن فينظرون إلينا نظرة إهمال مع العلم إنهم يعرفون صدقنا ومبادئنا، وهذا ما دعانا أن نكون مع حلف بغداد.

(07:01:00)
س ـ هل كانت تجري بعض الأحاديث بينكم وبين الرجال السياسيين في بغداد في ذلك الوقت؟

ج ـ كنا دائماً على اتصال مع زعماء العراق. ونحن نعلم أن المعاهدة أولاً من الوجهة الإسلامية كانت تركيا وإيران وباكستان وجميعها دول إسلامية عظيمة ويربطنا معها الدين ومن جهة ثانية كانت تربطنا مع الدول العربية رابطة القومية. بالنسبة لكلا الوجهتين من مصلحتنا أن نكون مع الغرب وليس مع الشرق. غير ان الضباط الشيوعيين ، وعلى رأسهم عبد الناصر في مصر، أرادوا حمل تلك الحملات الشديدة على حلف بغداد ليخرجوا العراق من الحلف. وذلك لأن وجود بغداد في الحلف معناه إنه إذا تولّى الدول العربية الأخرى أشخاص مخلصون شرفاء فسيعملون ما عملته بغداد لأنهم لن يروا أن من مصلحة بلادهم الإنضمام إلى الشيوعية وعقد الإتحادات معها والأحلاف.وبما أن البلدان الشيوعية عقدت أحلافاً مع بلدان الشرق فمن الطبيعي أن يتحفّظ الغربيون من ذلك. هذا وبصفة كوننا دولاً عربية صغيرة فمن مصلحتنا أن نكون بجانب الغرب. لهذه الأسباب أيّدنا حلف بغداد، لا لغاية شخصية بل لمصلحة البلد. إن الحملات الشعواء التي حملوها على حلف بغداد وعلى العائلة الهاشمية أدّت إلى انقلاب سنة 1958 في بغداد وكان من نتائجها تلك المجزرة الدامية التي يخجل التاريخ من تسجيلها ومن وصف فجاعتها لما اتّصفت به من عنف وتهديم. إنها خيانة وطنية عظمى جرّت الوبال على العراق إلى يومنا هذا. فلقد قوّى عبد الحكيم قاسم رجل الإنقلاب الشيوعيين البعثيين في أول الأمر، ثمّ عاد وحارب البعثيين، فتخلّص منه هؤلاء واستولت عليهم شهوة الحكم وأخذوا يناصبون العراق وزعماءه العداء فأذلّوا كباره ورجاله رجال الإستقلال منذ عهد فيصل الأول إلى العهد الأخير، فأصبح مأواهم السجون والتّشريد والتّعذيب إلى أن ماتوا في تلك الطريقة المزعجة الهائلة. واستمرّت الإنقلابات في العراق بالشكل الذي نعرفه، فبعد عبد السلام عارف جاء عبد الكريم قاسم وأخذت الإنقلابات تتوالى، يأتي واحد تلو الآخر على النمط ذاته.

(07:04:24)
اتصال البرازي بتركيا:

(07:04:24)
س ـ سبق وأخبرتنا عن اتصالاتكم بالجيش العراقي لتحقيق عملية إنقلاب في سوريا بغية تخليص الشعب من الجيش. فهل اتّصلتم في تلك المدة بتركيا طلباً للمساعدة؟

ج ـ كلاّ. لم يتمّ أي اتّصال.

(07:04:28)
س ـ في سنة 1954 سرت شائعة مؤداها أن الجيش التركي احتشد على الحدود السورية. فما صحة هذا الخبر؟

ج ـ لقد اتُّهمت أنا بهذه الشائعة بأنني على اتّصال بالجيش التركي لطلب قوّة تستولي على الحكم في سوريا . إنها قصة كاذبة وقد حُكمت غيابياً بالإعدام. وقالوا عني إنني ذهبت إلى تركيا لأجل هذه الغاية.

(07:04:32)
س ـ ماذا كانت إذن غاية تركيا من حشد جيوشها على الحدود السورية؟

ج ـ لم يكن لهذه القصة اي اصل. غير أن وضع تركيا يحتّم عليها أن تتخوّف من الشيوعية. فليس بأخذها الإحتياطات على حدودها أي هدف عسكري أو حربي. إنّ ذهابي إلى تركيا فلأسباب شخصية غير أنّهم أرادوا أن يحوكوا من زيارتي لتركيا واتّصالي برجالها روايات ليس لها أي أصل، تماماً كما حدث في عهد شمعون. إن اتّصالي هناك برجال تركيا هو اتّصال شخصي ليس أكثر ويقولوا أن الزيارة كانت لطلب الجيش. لكن القضية ليس لها أي أصل بتاتاً.

(07:07:30)
الأحزاب والملوك وموقفهم من الوحدة العربية:

(07:07:30)
س ـ هل باستطاعتك أن تخبرنا عن الأحزاب وموقفها من الوحدة العربية، وعن الملوك والرؤساء؟

ج ـ من المعلوم أن الوحدة العربية، كما سبق وذكرت، هي أهم أمنيات الأمة العربية، منذ أن أسّس الشباب العربي في استانبول النادي العربي. وقد كانت غايتهم المثلى استقلال البلاد العربية وتأمين وحدتها. وبينما كنا ننتظر من الرؤساء والملوك العرب العون الأكبر، كانوا مع الأسف يضعون العصي بالدواليب ويحاربون الوحدة العربية بجميع الوسائل المادية والمعنوية. أذكر على سبيل المثال رجال المملكة السعودية. فالملك عبد العزيز آل سعود مع ما كان عليه من ذكاء فطري خارق (بالرغم من أنه لم يتعلّم) كان ينقصه الشعور القومي الصميم من أجل وحدة البلاد العربية. فبعد ذهابه إلى نجد لم يكن يهدف إلاّ الملك، لقد قام بثورة بدوية وقضى على آل الرشيد أمير نجد واستولى على الإمارة وأصبح ملكاً على القطرين ولكن الوحدة العربية لم تهزّه لأنّ تفكيره كان بدائياً كغيره من رؤساء العشائر البدوية، بل نراه يحصر جهوده لإقصاء الوحدة العربية ومنعها من أن تتحقّق، ولذلك كان يصرف الملايين على حاشيته ومعاونيه، فيستفيدون من هذه الأموال ويغنمون ويغتنمون وكانوا يشجعون على المضي في هذه الخطة العوجاء، يتّصلون في سوريا برجال لا يريدون إلاّ المنافع المادية فيصرفون عليهم الملايين. وقد سار الملك سعود على خطّة أبيه. وكم لي من وقفات شديدة صريحة نصحت بها للملك سعود وللسعوديين ليتراجعوا عن هذه الطريق غير المستقيمة، ذلك لأن مصلحة بلادهم تقضي عليهم خدمة هذه المصالح القومية. ولي مقالات كثيرة في جريدة الناس بهذا الموضوع أنصح بها للملك سعود وللسعوديين، ولكنّ صرخاتي كانت مع الأسف في واد وكانوا هم في واد. وقد أمعنوا في السلوك على هذا السبيل غير البريء، إلى حدّ أنهم أخذوا يتعاملون مع الشيوعيين، ذلك أن الشيوعية لا ترضى عن الوحدة، فهمّ الشيوعي إنما هو مبادئه الشيوعية فقط وليس الوحدة العربية. سافرت ذات مرة إلى فيينّا بغية مقابلة الملك سعود والتحدّث إليه بهذا الموضوع، وقد قابلته وتحدّثت إليه طويلاً، كان يسيطر في ذلك الوقت الحكم الطاغي على دمشق وكان أكرم الحوراني من الدعائم القوية لذلك الحكم، وقد نبّهت الملك سعوداً وحذّرته من الوضع السائد الخطير وقلت له إنه إذا قويت الشيوعية في سوريا، فالخطر يكون على بلادكم وممتلكاتكم وملككم، غير إنه يكن لحديثي أي تأثير ولم أجد أي تجاوب، بل حدث العكس تماماً، إذ قال إنه صديق لأكرم الحوراني وصديق للحكم القائم ولا يرغب في العمل ضدّهما. وكان ذلك سنة 1965.

(07:15:11)
العلاقات السورية-السعودية:

(07:15:11)
س ـ ما كثير ذكي مثل فيصل؟

ج ـ لا، فيصل مع ذكائه نفس الخطّة اتّبعها. إن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ وإن كنتَ تدري فالمصيبة أعظم. هذا أدقّ وأذكى ولكن نفس الخطة الغير مستقيمة يتّبعها فيصل بالتردّد. هذا ما أجابني به الملك، فقلت له: "أمامك الخطر العظيم، فليس لي أي غرض شخصي بل قلت ما قلت لآجل مصلحة بلادي ولأجل ملكك أنت، وسيأتي يوم ترى نفسك معرّضاً للخطر". فلم يابه لكلامي. وكان الأمير أحمد أحد أعمام الملك سعود نازلاً في الفندق ذاته فأتى إليّ قبل أن أستعدّ للرحيل وقدّم لي عشرة آلاف دولار هديّة من الملك، فرفضتها رفضاً باتاً، وقلت له: "لم آت لغرض مادي كما يأتي غيري، بل أتيت لتقديم نصيحة مخلصة صادقة في هذا السبيل. لقد رفضت الهدية، مع أنني كنت بحاجة قصوى إلى المال بعد تنفيذ مشروع "الإصلاح الزراعي" في سوريا. فقال لي الأمير أحمد إنه لا يجوز إعادة الهدية، فإعادتها تعتبر إهانة. قلت له: "إنني لا أقصد الإهانة ويكفيني هدية من الملك أن يتذكّر كلامي الذي قلته له، وأعتذر لرفضي هديته". فأصرّ وأصررت وبقيت على كلامي ورفضي. والأمير أحمد وحاشيته وسفير السعودية في فيينا يعرفون ذلك. وقد كتبت كلمة نشرتها في جريدة الناس بهذا الموضوع. هذا ولي مواقف كثيرة في المجلس النيابي بهذا الموضوع كنت أحذّر فيها السعوديين من المخاطران التي يرتكبونها في سبيل سوريا وأنبّههم غلى الضرر الذي سيلحق بهم من جراء ذلك. ولم يمضِ على ذلك وقت طويل حتى انكشفت الأمور وأصبح الحكم السوري عدو الملك سعود اللّدود. وكالعادة أخذت المؤامرات والدسائس تُحاك ضدّه ثم توسّعت بمعونة عبد الناصر حتّى اضطرّ إلى أن يستقيل أو أقيل من الملك وحلّ محلّه الأمير فيصل. وكم تمنّيت أن أراه بعد ذلك. فقد حاولت كثيراً ولكني لم أُفلح لأنه كان في أوروبا ثمّ ذهب إلى مصر لاجئاً إلى عبد الناصر وقد قام إخوته أنفسهم وبقيّة السعوديين ضده كلّ ذلك بتشجيع من الحكام السوريين الذين كان يعتبرهم أصدقاءه المخلصين وعلى رأس هؤلاء "الأصدقاء" أكرم الحوراني. أما الملك فيصل فقد كان لا يزال يدير مملكته بتعقّل ورويّة. ولكنه سار للأسف في هذا الموضوع السياسي على طريق أسلافه. فالأعمال التي يقوم بها معاونوه ومنهم السعوديون إنما هي لمنفعتهم المادية. أموالهم هي السبب في تقرّب الناس إليهم. إنهم يعتبرون المال وسيلة لشراء الضمائر. إن كل مَن كان حول الملك سعود ومن هو حول الملك فيصل الآن أصبح من الأثرياء. لقد جمعوا كلّهم الملايين ولكن ليس من عرق الجبين بل بالإتفاق. إن كل من يريد الذهاب إلى السعودية سواء في ذلك الملك فيصل أو الذين سبقوه، إن كل من يريد الذهاب إليهم يجب أن يترك كرامته على الحدود ويدخل دون كرامة. فهم يعتبرون أن كل من يذهب إليهم إنما يذهب لأجل المال فقط. لا يفهمون مقياساً للكرامة ولا للوطنية والمبادىء والعقائد. كنت آمل من الملك فيصل، بالنظر لخبرته وتمرّسه بالأعمال منذ صغره ومن تجواله في البلاد الأوروبية والأميركية ومن معاشرته الناس، أن يكون على مستوى العصر. ولكنه مع الأسف سار على الخطة ذاتها التي كان يسير عليها أسلافه. فهو بطيء التفكير لا يتّكل إلاّ على نفسه وعلى أمواله وأعوانه الذين يستهدفون المال والثروات بدلاً من أن يعتبر الخلصين وأصحاب الكرامة. إذا نحن بحثنا اليوم عن الذين يحيطون بالملك فيصل، لا نجد إلاّ الذين لا يستهدفون إلاّ المال وجمع الثروات، فبقدر ما يتزلّفون وينافقون وبقدر ما يفقدون كرامتهم يكونون من أصحاب الأموال والملايين. ومن الأمثلة على تردّد فيصل وعلى جبنه، مع ما يمتلك من مقوّمات، اموال البترول. فهي تبلغ ألوف الملايين. إنهم يجمعون أكثر من ألف وخمسمئة مليون دولار أي أكثر من خمسة آلاف مليون ليرة لبنانية. إنه باستطاعته ان يعمل العجائب بهذه المبالغ لخدمة البلاد العربية، ولكننا نرى العكس، فالشيوعيون المعروفون في سوريا اليوم أصبحوا المقرّبين. لأنهم يتزلّفون وينافقون ويكتبون رسائل المديح التي تصل إلى درجة العبادة. وبهذل المديح المنطوي على الأكاذيب والنفاق أصبح لهؤلاء نفوذ اليوم في المملكة السعودية.

(07:26:29)
س ـ هل تعني بكلامك أشخاصاً معنيين؟

ج ـ يوجد أشخاص معيّنون مثل الصحافي أكرم عسلي خادم أكرم الحوراني وزميله. فهو اليوم من المقرّبين، ونهاد الغابري وهو من الشيوعيين الحمر، وهناك آخرون من الضباط وهم أيضاً من الشيوعيين.

(07:27:01)
س ـ كيف يقرّبهم إليه مع أنه ضدّ الشيوعيين؟

ج ـ إنه يخاف من الشيوعيين وفي الوقت ذاته يقرّبهم إليه عن عمى وعدم معرفة وأما من جراء ما يغدقون عليه من المديح وهو يتأثّر به كثيراً فالمديح يؤثّر على كثير من الناس فلا يستطيعون مقاومته بل يفضّلون النفاق والكذب على أصحاب الكرامة. كل ذلك تحت تأثير المديح. قصدت مراراً مقابلة الملك فيصل لأتكلّم معه كلام مخلص صريح بعيد عن كل غرض شخصي وانتظرت طويلاً ولكنني لم أفلح فلم يكن لديّ"واسطة" لمقابلته، فالأعوان الذين حول فيصل من سوريين وسعوديين لا يهمّهم إلاّ جمع المال إذا سمعوا برغبتي في مقابلته كأمثال ميشال فرعون الذي حصد الملايين، وهم يعرفون صراحتي وعزّة نفسي وكرامتي وخطّتي السياسية التي تنير أمامه الطريق، لا يساعدونني ولا يسهّلون مقابلتي له. لذلك اضطررت إلى إرسال برقية مطوّلة له بيّنت فيها إنني لا أطلب شيئاً ولا أريد أية منفعة شخصية على الإطلاق، إنّما في عنقي أمانة أريد أن أؤديها خدمة للعروبة وللأمة العربية. غير أنني لم أتسلّم جواباً على برقيتي، ومن المعقول إنها لم تصل إليه وقد تكون قد وقعت بيد أحد المعاونين فذهبت أدراج الرياح. ومن غرائب سلوك السعوديين أيضاً أنهم يشجّعون الضباط الإنقلابيين على الإنقلابات العسكرية، مع أن ذلك يضرّ بالبلاد العربية.

(07:30:19)
س ـ ما هو رأيك الخاص بهذه التّصرّفات. وما هي سياستهم؟

ج ـ كان رأيهم إنه إذا اتّحدت سوريا مع العراق فإن ذلك سيؤدّي إلى نزاعات شخصية بالنسبة لوجود الهاشميين في العراق. لذلك كان السعوديون يؤيّدون دائماً الإنقلابات. لنأخذ الشيشكلي على سبيل المثال. فقد دفعت له الملايين ولرفاقه الضباط الإنقلابيين وهم من الشيوعيين الحمر، وأعني بذلك إنهم ليسوا أصحاب عقيدة صحيحة بل ناقمون على الأشخاص ذوي الكرامة وحاقدون على وطنهم. فهم لم يؤدّوا لهذا الوطن خدمة تُذكر، بل على العكس من ذلك، كانوا دائماً وبالاّ عليه. وكان الملك فيصل خير معوان لهذه الطغمة الشريرة. كان يرسل إخوته إلى الشيشكلي. فقد جاء مرّة إلى دمشق الأمير سلطان والأمير عبد الرجمن، وقد كنت في ذلك الوقت عضواً في مجلس النواب. وأثناء زيارتهما، كان الشيشكلي واضعاً فوزي سلو، وهو من الأشخاص العاديين، من حثالة الناس ليس من شأنه أن يكون كابورال، رئيساً للدولة. بينما كان هو رئيساً للأركان. وكان يلعب به بشكل مهين وهو لا يشعر بتلك الإهانات. وقد أخبرت الأمير سلطان في إحدى الحفلات السبب في احتقاري للشيشكلي في زمن عنفوانه، مع إنه ابن عمّتي، ذلك إنه كان طاغية ومن أصحاب المبادىء الشيوعية الحمراء. ولذلك كنت أناصبه العداء. في تلك الفترة تألّف مؤتمر برلماني في استانبول، وكنت رئيساً للهيئة البرلمانية السورية، فقال لي أمام الأمير سلطان: "سمعت يا ابن خالي إنك ذاهب إلى استانبول لحضور المؤتمر". قلت له: "نعم سأذهب، وهل ستذهب أنت أيضاً؟" فقال: "كلاّ، إني موظّف وأحتاج إلى إذن". فسألته: "مِن مَن"؟ قال: "مِن الجنرال سلو". فقلت للجنرال سلو أمام الأمير سلطان وعبد الرحمن ساخراً: "يا جنرال سلو، أما أعطيت إذناً لابن عمّتي لكي يذهب إلى استانبول"؟ وكانت فكاهة سخرت بها من سلو ومن ابن عمّتي، وذلك لكي أظهر للأميرين السعوديين إلى أية درجة كان الشيشكلي حقيراً كاذباً خدّاعاً. ولكن ذلك لم يؤثّر بالأمير سلطان لأنه، كما قلت صاحب أفكار بدوية صحراوية، أشبه شيء بشيوخ العشائر الذين لا يعرفون إلاّ أن يعطوا المرء المال فيبيع هذا كرامته وضميره وقناعته. حتى الملك فيصل نفسه فهو الآن يخاف من عبد الناصر خوفاً شديداً، ومع ذلك لم يتأخّر من إعطاء عبد الناصر خمسين مليون ليرة إسترلينية، خوفاً وجبناً. الناس كلّهم يعلمون بأنه ضدّ عبد الناصر وإن عبد الناصر ضدّه وقد وصلا إلى حدّ الحرب. فقد كانت حرب اليمن من أجل الإستيلاء على السعودية، ولم يترك عبد الناصر طريقة من الطرق للقضاء على فيصل، ومع هذا كلّه فقد قدّم الملك فيصل هذه الإعانة السنوية لعبد الناصر. لقد سلك السعوديون الطريق العوجاء وستثبت الأيام إنهم على خطأ وإنّهم يعرّضون ملكهم للخطر. فالمعلّمون السوريون الذين يعملون في السعودية تبلغ نسبة الشيوعيين فيهم ثمانين بالمئة، إنهم يعملون للشيوعية ويتربّصون الفرص ليضربوا ضربتهم، والأمراء السعوديون وملكهم سائرون في غيّهم لا يدرون شيئاً. في جميع العهود الإنقلابية التي مرّت كان السعوديون في دمشق مع الضباط أو مع أرباب الأفكار الشيوعية. كخالد العظم الذي ذهب إلى موسكو وتزيّى بالزيّ الشيوعي ليصل إلى رئاسة الجمهورية. وقد سانده الروس مع كونه الخصم اللّدود لهم، وأعطوه الملايين ايضاً. وكان لكثير من الضباط غير الشيشكلي نصيب كبير من أموال السعوديين. كما أن في السعودية الآن أناساً يعملون حولهم مثل معروف الدواليبي المعروف بالشيخ الأحمر لأنه كان من الشيوعيين. وقد صرّحت بذلك في المجلس النيابي عندما كان هو رئيساً للمجلس. فقد تقدّمت منه مهنّئاً وقلت له: "هل أردت أن تفهمنا بأنك شيوعي أحمر فتلبس ربطة عنق حمراء؟ لا لزوم لهذا التظاهر". فأجابني: "وهل هذه حمراء"؟ قلت: "أتريد أكثر من هذا الإحمرار"؟ ثمّ ارتجلت له بيتين للمتنبي متصرّفاً باسم الدواليبي فقلت:

"ليت الحوادث باعتني الذي أخذت مني بعلمي الذي أعطت وتجريبي

فما الحداثة من حلم بما نعة قد يوجد الحلم حتى في الدواليبي"

أفراد حزب الشعب من هو معروف بنزعته الشيوعية كمعروف الدواليبي وغيره أما الآن فأريد أن أقول إن معروف الدواليبي من المقرّبين إلى الملك فيصل يصول ويجول في الغش والخداع ويجمع الثروات مع معاونيه الذين حول فيصل.

(07:41:51)
موقفه من الرابطة الإسلامية:

(07:41:51)
س ـ ما هو رأيك بالرابطة الإسلامية التي يدعو لها فيصل؟

ج ـ أعتقد أن الملك فيصل يتعقّب الرابطة ليس لغاية مخلصة بل لحماية العرش والملك. فالعروبة والبلاد العربية ليست ضدّ الإسلام. فلو اشتغل بخدمة البلاد العربية وتقوية روابطها لكان أجدى له من العمل على الإتّحاد مع باكستان وأندونيسيا والصومال التي لا تجمعنا معها أية روابط. ذلك أن رابطة الدين رابطة عامة، فهنالك أكثر من خمسين مئة مليون مسلم على الكرة الأرضية فمن الصعب توحيدهم. إن الدين يربطهم في سبيل هدايتهم لله وليس لذلك أية علاقة بالسياسة. إنهم يستعملون الأمور الدينية لأغراض شخصية، وقد استعمل الملك فيصل هذه الطريقة سلاحاً ضدّ عبد الناصر كذباً ونفاقاً أيضاً يشتغل باسم العروبة والعربية مع أن مصر لم تكن في يوم من الأيام مرتبطة بالعروبة. نعم إنها من الدول العربية ولكن لم يكن عندها المبادىء العربية. كانوا، بالعكس يعتبرون أنفسهم قطراً عربياً فقط لكونهم يتكلّمون اللّغة العربية. حتى سعد زغلول نفسه كان بعيداً كل البعد عن فكرة العروبة. ورجال مصر الأفذاذ رجال الوفد، كلهم مع احترامي لهم لم يفكّروا يوماً بموضوع العروبة والقومية العربية. إنّ لهم قومية مصرية حتى إنهم يسمون أهل سوريا ولبنان بالشوام والملك فيصل يستعمل من جهة ثانية سلاح الدين في هذا السبيل، لا لمصلحة العروبة بل سلاح شهره ضدّ عبد الناصر لا أكثر. أما عبد الناصر فما زال يهدّم بالعرب وبالعروبة باسم خدمة العروبة. لقد نالت البلاد العربية من المحن والشدائد والخراب والتّفرقة على يد عبد الناصر والسعوديين ما أدّى بأرباب المبادىء الصحيحة الذين بستهدفون الوحدة العربية إلى النفور منها والكفر بها بعد ما ظهر منهم ما ظهر.

(07:45:19)
العلاقات السورية – الأردنية ورؤيته لمصير الأردن:

(07:45:19)
س ـ هل لنا أن نعرف رأيك بالملك حسين والملك عبد الله وعلاقة سوريا بالأردن؟

ج ـ ذكرت سابقاً إننا لم نسر على طريق الهاشميين لأجل شخصهم بل لأننا نعتبرهم رمزاً للوحدة العربية. ففي سوريا كان الملك فيصل ثم كان في العراق الملك علي وعبد الله. التوحيد إنما هو احترام العرب لهذا البيت الهاشمي ـ ديناً وعروبة، وذلك نظراً لما قام به الملك حسين الأوّل من خدمة للعرب في ثورته الأولى، تلك الثورة العربية الكبرى الصحيحة. إنها أول ثورة في عالم العرب. فالهاشميون هم الذين بثوا فكرة القومية العربية منذ أن كنا في استانبول، وقد كان الملك عبد الله عضواً في مجلس الأعيان وكان أبوه الشريف حسين أميراً على الحجاز. كان الهاشميون في ذلك الوقت يبثّون هم وحدهم فكرة القومية العربية. وعندما أتى الملك فيصل الأوّل إلى سوريا عند خروج العثمانيين من سوريا وانسحاب جيشهم، حلّ ضيفاً عندي فعرفت فيه رمز الوحدة العربية. ولكن الحظّ مع الأسف لم يحالف الهاشميين. فلو قبل الملك حسين الأول بفكرة فلسطين التي أثارها الإنكليز وبالذات ماكماهون فتساهل قليلاً بشأن فلسطين وبوضع اليهود الأول القديم، لكان احتفظ بملكه على الحجاز وأصبح ملكاً على نجد أيضاً. ولكنه مع الأسف عاند عناداً قوياً فكان مصيره النفي إلى قبرص وهو في أشدّ الحاجة إلى العيش وإلى الحياة الكريمة التي تتماشى مع كرامة هذا البيت. أما الملك فيصل في العراق فقد كان ملكاً على سوريا قبل أن يكون ملكاً على العراق وفي ذلك الحين كان الفلسطينيون مع الأسف وبعض السوريين، الذين يسيرون وراء الشارع وكانوا ضدّ الإتّفاق الذي تمّ الوصول إليه مع كليمنصو. وقد اشتركت في ذلك الوقت بالمذاكرات التي جرت سنة 1919، ولكنّهم عادوا وانقلبوا عليه واشتعلت الحرب بينه وبين الفرنسيين فاضطرّ الملك فيصل إلى الهرب إلى العراق حيث حدثت له خلافات كثيرة في سبيل إستقلال العراق وتقدّمه وسيره في طريق الوحدة العربية. لقد كان الهاشميون أمناء على الوحدة العربية يعملون لتحقيقها بكل إخلاص غير أن الحظّ العاثر انقلب على فيصل الثاني وقضي عليه بهذا الشكل. وبعد أن زال الملك فيصل الثاني بقي الملك حسين في عمان. لم يسبق لي شرف المعرفة بالملك حسين إلاّ أنني اجتمعت به في مطار استانبول، فقد استقبلته هناك مرّتين عندما كان يذهب لزيارة والده. إنه رجل محترم شجاع معروف بشجاعته وإخلاصه للقومية العربية، ولكني لم أستطع مع الأسف أن أتّصل به لأنصح له عدم السير في طريق عبد الناصر. عندما وقعت حرب 5 حزيران الأخيرة كان عبد الناصر يهيء له المؤامرات ويهيء إنقلاباً ضدّه، وقد ألّف منظمة التحرير ووضع على رأسها ذلك الثرثار المحتال الخاسر أحمد الشّقيري الذي كان شراً ووبالاً على البلاد العربية بخطبه الجنونية وبكلماته المتطرّفة.

(07:50:52)
س ـ ألا تعتقد إنه لو لم يقبل الملك حسين الدخول مع عبد الناصر لكان قتل؟

ج ـ لقد أثبتت الأحداث والأيام إنه لو لم يدخل لكان حدث ذلك غير أن القضية لم تستغرق بالأساس أكثر من ثلاث ساعات. بثلاث ساعات دحر عبد الناصر وانجلى الأمر. ولكن لو لم يدخل حسين الحرب لربما كان المحور في البلاد العربية بعدم دخوله الحرب. إن القدر جعله يحسن النية بعبد الناصر ويربط مصيره به، فكانت غلطة سياسية كبرى أدّت إلى الضرر بالأردن وفلسطين وبالملك حسين نفسه حتى إنه أصبح اليوم في وضع محرج تماماً بالنسبة إلى عبد الناصر. إلى اليوم مع كل ما عمل وضحّى الملك حسين، أصبح اليوم عبد الناصر يهيء له الدسائس والمؤامرات حتى يقضي عليه.

(07:52:11)
س ـ ما هو مصير الأردن حسب اعتقادك الخاص؟

ج ـ إن وضع الأردن، مع الأسف، خطير اليوم وحرج لأنه موضوع الفدائيين قضية خطيرة وأخشى أن يُزجّ الأردن بهذا الوضع الخطير أكثر فأكثر إلى أن يقضي على كيان وعلى كيان الملك حسين. هذا ما أخشاه وأطلب من الله ألاّ تصل المهالك والمخاطر إلى هذا الحدّ، وأن يتلافى الملك حسين برجولته وشجاعته هذا الشرّ ويبعده عنه وان تنتهي الأمور إلى طريقها السليم.

(07:53:35)
الإنقلاب والوضع السياسي في العراق:

كنا تكلمنا عن موقف الملوك سابقاً... كم وكم بذلت الجهد في نصح السعوديين والرجال المسؤولين في عهد حكمهم، كنت أتكلم في المجالس النيابية وأكتب في جريدة الناس ولكن لم أجد مع الأسف جدوى لحديثي. لقد كان الملك فيصل الأول في العراق رمز النهضة العربية، وكان مخلصاً حقاً لتحقيق الوحدة العربية ولكن الأمة العربية، لسوء حظها حُرمت من إكمال جهوده لتأتي السلبية التي دائماً ما ترافق الزعماء العرب في أعمالهم وأقوالهم السياسية وفي سيرهم في الشارع وراء الغوغاء لتحول دون تنفيذ الإتفاق الذي عقده الملك فيصل مع كليمنصو وقد كنت مشتركاً في تلك المباحثات. لقد مُنيت البلاد العربية بوفاة الملك فيصل بخسارة عظيمة. فجاء ابنه غازي متحمّساً للحكم. لم يكن لي سابق معرفة به ولكني كنت أسمع من بعض الإخوان العراقيين ما كانوا يلهجون به دوماً من محبّته وإخلاصه لبلاده ولقوميته العربية، غير أنه كان عصبياً. ولم يكمل رسالته فقد توفي بحادث سيارة ثم جاء الملك فيصل الثاني الصغير نجل الملك غازي لكنه كان طفلاً صغيراً فتولّى الأمر عنه خاله عبد الله لصغر سنّه وأصبح وصيّاً على العرش. ولم يكن عبد الله ذلك الرجل المثقّف ولم يكن ملماً بالأمور السياسية وكانت له نزعات غريبة وأفكار شاذّة بالإضافة إلى العناد الذي كان يتّصف به. وطالما أسديت له النّصح بألاّ يتخطّى طريق أسلافه باعتماده على الجيش وضباطه، مع العلم أن في الجيش العراقي ضباطاً مخلصين لوطنهم أمثال نوري السعيد وجعفر العسكري وغيرهما الكثير. غير أن عبد الله لم يترك لهم مجال العمل الجدي. كان يحسن الظنّ في غيرهم من الضباط أمثال عبد الكريم قاسم الذي قام بالإنقلاب المعلوم فأصبحت البلاد العراقية والبلاد العربية من جراء ذلك بمحن لا تحصى ولا تُعدّ. وقد نبّهت الأمير عبد الله عندما قمت بزيارة لبغداد قبل إنقلاب عبد الكريم قاسم ونبّهت الأمير عبد الله كما نبّهت المرحوم نوري السعيد فيما يتعلّق بخططهم في سوريا من أجل الإتّحاد أو الوحدة ومن أجل إنقاذ سوريا من الضباط الّذين ألّفوا عصابات السلب والنهب. لم يكن لنا من موئل ومسند نعتمد عليه إلاّ العراق وحكومة العراق وهؤلاء الرفاق الذين كانوا من رفاق فيصل الأول والذين قاموا بالثورة ضدّ الأتراك وكانوا من دُعاة الإستقلال في سوريا والعراق أيضاً. ومع أني أعتقد بإخلاص نوري السعيد فقد كان عنيداً في رأيه كان يعهد بالأمور المتعلّقة بسوريا إلى أشخاص عسكريين صغار النفوس وصغار الرّتب كان يعتمد على عقيد يدعى صالح مهدي وكان هذا مرجعه في بيروت وفي سوريا فيما يتعلّق بالأمور السورية. وكان نوري السعيد يعتمد عليه يرسل له الأموال الطائلة فيصرفها هذا في غير مجراها ويتصرّف بها كما يشاء، حتى إنه حصل على ثروة كبيرة، كما يقال، وادّعى إنه اتّفق مع بعض الضباط السوريين ليشكّل على زعمه قوّة من العلويين ويسلّحها لأجل القيام بعملية إنقلابية في سوريا. لقد كانوا يزعمون إنهم يُعدّون المجنّدين لهذه العملية بالمئات ـ 400ـ500 مقاتل غير أن هؤلاء المجنّدين لم يكونوا إلاّ حبراً على ورق ولم يكن لهم أي وجود حقيقي. كل واحد منهم مخصص له 200ـ 300 ـ 400 ليرة شهرياً هؤلاء يدخلوا إليهم لصالحهم وللضباط الذين يعتمد عليهم آنذاك.

(08:03:00)
س ـ بأمر مَن كان العقيد صالح مهدي يعدّ المجنّدين للقيام بالإنقلاب؟

ج ـ كان نوري السعيد هو الذي يسعى إلى ذلك بمساعدة بعض الضباط.

(08:03:34)
س ـ لماذا كان يفعل ذلك؟

ج ـ كان نوري السعيد يقوم بهذه الأعمال عن إخلاص ولاعتقاده بإخلاص صالح مهدي غير أن الأمر كان عكس ذلك. لقد كان باستطاعتهم الإعتماد على بعض المدنيين للقيام بحركة إنقلابية في سوريا، فيزول العسكريون عن الحكم ويرجع الحكم المدني الشرعي. لقد كان هدف العراقيون ذلك ولكن المنفّذين كانوا يسيرون وراء النّهب وجمع الثروات. وقد نصحت لنوري السعيد ونبّهته لما يجري وذلك لمّا ذهبت إلى بغداد، غير أنه لم يهتمّ لما قلت واكتفى بأن طمأنني ثمّ أرسل إلى صالح مهدي أن يعود إلى العراق أثناء وجودي هناك وبلّغه التّعليمات عن الخطّة اللاّزم تنفيذها غير أن النتيجة لم تكن مع الأسف مرضية. وعندما ذهب عبد الله إلى استانبول مع الملك فيصل في عام 1958 ذهبت مع بعض النواب إلى هناك وجلسنا معهما، فاستدعى بعض الرجال العراقيين والوزراء السابقين وعقدنا شبه مؤتمر بيّنت لهم فيه آرائي كلّها وذلك بعد أن كنّا قد اجتمعنا بعبد الله على انفراد ونصحنا له قائلين إن العراق معرّض لعملية إنقلابية فمع أنه ليس عندي دليل حسّي على ذلك فالجوّ جوّ إنقلابي. وقلت إنني أعتقد بأنكم ستواجهون عملية إنقلابية في القريب العاجل وإنكم تفسحون المجال لعبد الناصر لأن يُحقّق هدفه ويقضي عليكم. وكنت أرى في الجوّ فعلاً جوّ مشحون بالخطر والتّهلكة لكنه أبى. فقال لي عبد الله يومها: "إنك تشعر بأن الجوّ جوّ إنقلابي لأنك تظنّ أن الجيش العراقي مثل الجيش السوري. فإذا كان الجيش السوري جيش عصابات فجيشنا نظامي فيه الربط والضبط يسوده القانون والنّظام وهو بعيد كل البعد عن الإنقلابات". فأجبته أنا والأستاذ قزح مملوك قائلاً: " إنّك على خطأ وإنّك سترى ولن تصدّق ما نقوله إلاّ عندما ترى جيش عبد الناصر في شارع الرشيد في بغداد".

وبعد تلك الإجتماعات وبعد إصرارنا وعدم تجاوبهم قلت لعبد الله: "لن أتكلّم معكم بعد اليوم في السياسة ولن أتدخّل قطعياً، وهذا آخر حديث لنا معكم في هذا الموضوع". وعندما غادر عبد الله ونوري السعيد استانبول في 10 أم 9 تموز إلى بغداد على أمل العودة إلى استانبول لم أودّعهما مع أني رأيتهم قرب المصاعد في الفندق لأني كنت متشائماً من الحالة وكنت أرى خطورة الوضع وأتوقّع المصيبة التي ستنزل بهما وهما في غيّهما سائران وهم على الغرور مصرّون. وقد ذهبا ولم يرجعا، فقد وقع الإنقلاب العراقي بقيادة عبد الكريم قاسم الضابط المدلّل عند نوري السعيد الذي كان يسمّيه "كرّومي" (كان يُحكى له وينبّه نوري السعيد، عبد الكريم قاسم نراه في صورة إنقلابي في حوله شيء مشبوه كان يقول اتركوا "كرّومي" لي). والذي كان يشمله بعطفه ورعايته. وهكذا حلّت المصيبة في العراق ووقعت المجزرة الدموية التي ستبقى وصمة عار على تلك العصابة التي كان يقودها عبد الكريم قاسم وأعوانه والتي ما تزال تجرّ المصائب والمحن على العراق وتجرّ شتّى الإنقلابات التي تتابعت بعد إنقلاب عبد الكريم قاسم. وهكذا نرى أن الملوك مع الأسف لم يساعدونا للوصول إلى الغايات القومية بل على العكس كانوا يمانعون بشتّى المجالات ويشكّلون عثرة في هذا السبيل.

(08:12:19)
الإنقلابات التي تسبّب الإنقلابات في سوريا أكثر من بلدان غيرها:

(08:12:19)
س ـ ما هي العوامل التي تسبّب الإنقلابات في سوريا أكثر من أي بلد آخر؟

ج ـ نشأ الضباط السوريون في مدرسة الكليّة الحربية في حمص. وكان أساتذتها شيوعيون. كنت أسمّيهم أنا بدل الإشتراكي الشيوعي كنت أسمّيهم "إشتراشعويون" جماعة أكرم الحوراني. كانوا يبثّون بهم تلك الروح. والقضية قضية نهب وسلب فلا يوجد أي مبدأ يمشون عليه حتى المبدأ الشيوعي فهم غير مخلصين له. جماعة من حثالة الناس في دراستهم وثقافتهم. كان يوجد بعض الضباط الشرفاء ولكنّهم كانوا جبناء لا يغامرون. وكان أكرم الحوراني وأساتذة الكليّة يبثّون في الضباط هذه الروح. ولم يكن ليدخل في تلك المدرسة أحد من العوائل. كانت المدرسة في بادىء الأمر تحت السلطة الفرنسية وكان تعليمها فرنسياً ولكن الحكومة الفرنسية لم تعرها اهتماماً كبيراً في ذلك الوقت. فنشأ فيها صفّ وراء صفّ من الضباط من الفلاحين ومن الناس الحثالات من تلك المدرسة تخرّجوا منها بواسطة السياسيين الذين وراءهم يوجّهوهم مثل أكرم الحوراني الذين لا يهدفون إلاّ إلى الإنقلابات ليضعوا يدهم على الحكم وليشتهر اسمهم. وهكذا نشأ الجيش السوري طلع حسني الزعيم بعدها أتى الحنّاوي.

(08:15:29)
أسباب فشل محاولات ضمّ سوريا والعراق:

(08:15:29)
س ـ تقول نجلا أبو عزّالدين عندما أتى الحناوي إلى الحكم اجتمع النواب في المجلس النيابي وكادوا يقرّرون انضمام سوريا إلى العراق. فهل تذكر بعض الأمور التي حدثت في تلك الجلسة؟

ج ـ لقد كان الإتّجاه عندنا وعند حزب الشعب إلى تأسيس وحدة عربية، وإذا لم تتحقّق هذه الفكرة فاتّحاد بين العراق وسوريا. وقد كان الحناوي بالأساس، كما سبق القول، ضابطاً بسيطاً في ثقافته ومعلوماته السياسية ولكنه كان يشاركنا شعورنا بذلك الأمر وقد ساعدنا وسار بإخلاص لتحقيق هذه الغاية. غير أن قسماً من الضباط المنتمين إلى حزب الشعب كانوا جبناء لا يستطيعون مجابهة الشيشكلي وغيره من الذين كانوا مع أكرم الحوراني ضدّ هذه الفكرة وضدّ أية وحدة أو اتّحاد مع أي قطر من الأقطار وخاصة مع العراق. لقد كانوا ضدّ العراق لأنهم كانوا ضدّ الهاشميين. ولذلك قاموا ضدّ حزب الشعب مع أن الوضع كان بيد هذا الحزب إذ كان رئيس الدولة هاشم الأتاسي والأكثرية الساحقة في المجلس التأسيسي معنا في هذه الفكرة، غير أنهم مع كلّ ذلك لم يجرأوا على تنفيذها فعلياً فأفسحوا المجال بتردّدهم وجبنهم للشيشكلي لأن يقوم بإنقلابه على الحنّاوي وكانت النتيجة أن بقي الحناوي مدّة من الزّمن في السجن وبعد مضي تلك الفترة خرج الحناوي وبقية الضباط الموقوفين من السجن وذهبوا إلى لبنان حيث لاقى الحناوي مصرعه.

(08:18:12)
ضرر الأحزاب بالبلاد العربية:

فكما كانت مصيبة البلاد العربية بملوكها وأمرائها، كانت أحزابها مصدر الشرّ والضرر عليها. وقد بدأت هذه الأحزاب، كما ذكرت سابقاً، على شكل هيئة سياسية في النادي في استانبول. ثمّ تطوّرت بعد أن تخرّج الطلاّب من المدارس العليا في استانبول، وأصبحوا رمزاً للمبادىء العربية وللوحدة العربية. ثمّ إنّ هؤلاء الطلاّب عادوا إلى البلاد بعد الحرب العالمية الأولى، فألقوا الحركات الحزبية في عهد الملك فيصل عندما أتى إلى سوريا وأخذت هذه الحركات تتطوّر إلى أن وصلت إلى العراق. وقد تألّف المجلس التأسيسي في سنة 1928 من 95 نائباً. كان منهم سبعة عشر نائباً تخرّجوا من المدارس العليا وشكّلوا نواب الكتلة الوطنية. ومع كونهم أقليّة في المجلس فقد كانوا قادة وموجّهين في المجلس بالنّظر لثقافتهم وخبرتهم، غير أن السلبية كانت مسيطرة على أفكارهم، لا يرضون أي أمر إيجابي بالنسبة للأحوال التي كانوا يعيشون بها. وبهذه الطريقة كانوا يضيّعون الفرص. وفي كل مرّة كانوا يطلبون أقلّ مما يطلبون في المرّة السابقة ومع ذلك كانوا لا يحصلون على ما يطلبون. هذا ما وقع في فلسطين سنة 1923. كانت نسبة اليهود في فلسطين قليلة فاقترح على العرب تأليف حكومة فلسطينية تكون أكثرية أعضائها من العرب والأقليّة من اليهود كما تعطى لليهود حقوق قومية محدودة. فلو قبل العرب ذلك لما توسّعت قوّة اليهود ولما تطوّر وعد بلفور وانتقل إلى الصعيد الدولي. غير أن أميناً الحسيني وجماعته رفضوا كلّ شيء بطريقتهم السلبية كلمة لا لا لا. وهكذا كان الحاج أمين الحسيني سبب نكبة فلسطين. وقد ذهب من جراء سلبيته وعناده كثير من القتلى والضحايا من أهل فلسطين ذاتهم من الإسلام والعرب والسيحيين. لم يكن للطريقة السلبية أي نفع للبلاد العربية بل كانت وبالاً عليها. أما حزب الكتلة الوطنية فقد كان ضدّ هذه الفكرة. كان رأيه قبول المواد الستّ لمتابعة المفاوضات في أوروبا أما هم فلم يقبلوا. وفي سنة 1936 و 1937 اقترحوا عقد معاهدة فرفضت. وفي سنة 1945، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تطوّرت الأحزاب وأصبحت الكتلة الوطنية حزبين: الحزب الوطني وحزب الشعب. كان من حزب الشعب رشدي الكيخا وناظم القدسي الذي كان رئيساً للجمهورية وآخرون غيرهما. أما جماعة الحزب الوطني فقد كانوا ابراهيم هنانو وسعد الله الجابري وميخائيليان وغيرهم. ولكنهما من منبع واحد.

(08:26:59)
الأحزاب في سوريا: حزب الشعب – الحزب الوطني – الحزب الشيوعي – حزب البعث والحزب السوري القومي:

(08:26:59)
س ـ ما هو جوهر الإختلاف بين الحزبين؟

ج ـ لم يكن الإختلاف جوهرياً. ولكن بعدما انفصل رجال حزب الشعب عن رجال الحزب الوطني. وكان أكثرية أعضاء حزب الشعب من الحلبيين. وكان ذلك الإنفصال لأغراض وخلافات محليّة وحزازات شخصية بين رشدي الكيخا وميخائيليان وناظم القدسي. ثم دخلت في حزب الشعب عناصر شيوعية مثل عبد الوهاب حومد وعلي شهاب من حلب وغيره، وأخذت هذه العناصر توجه حزب الشعب توجيهاً شيوعياً من جهة ومن جهة أخرى أخذ رشدي الكيخا بحماقته يؤيّد ناظماً القدسي ويدعو له مع أنه يعلم حقّ العلم بأن القدسي ضعيف الأعصاب خائر العزيمة لا يملك من عناصر الرجولة اي شيء البتّة، بل كل صفاته إنه كان مطواعاً لرشدي الكيخا. ولهذا السبب أخذ رشدي الكيخا يدعو لأن يكون الحكم بيد ناظم القدسي، فيقوم الأوّل بأعماله من وراء الستار. ولما احتدم الخلاف بين حزب الشعب والحزب الوطني أخذت جريدة الناس تحمل حملات شعواء على الجهتين لأنهما من منبع واحد فلا يجوز الإختلاف بينهما. وقد أدى خلاف الحزبين إلى فتح الطريق أمام الشيوعيين وأمام أكرم الحوراني وخالد بكداش ليعمل هؤلاء على التفرقة وعلى توجيه البلاد إلى الشيوعية. هذا وقد كتبت عدّة مقالات في جريدة الناس وألقيت الخطب في المجلس النيابي منبّهاً لما سيحصل. وقد أثبتت الأيام صحّة كلامي وكشفت عن أخطائهم وكيف أنهم جرّوا البلاد إلى المصائب فأصبحوا مشرّدين خارج سوريا وتركوا الفرصة لعصابات الأشقياء تحكم البلاد بقوّة الإرهاب والطغيان.

(08:30:21)
س ـ مؤسّس الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان، هل تعرفه شخصياً؟

ج ـ خالد بكداش أم نقولا شاوي؟ نقولا شاوي* هو الذي قتلوه. أذابوه بالأسيد في الشام. (ملاحظة: يقصد الرئيس حسني البرازي القائد الشيوعي اللبناني "فرج الله الحلو" وليس نقولا شاوي، فقد توفّي السيد نقولا الشاوي سنة 1983 بينما اعتقل فرج الله الحلو عام1959 من قبل المخابرات السورية وتم اغتياله)

لا أعرف المؤسس، إنما أمين السرّ العامّ فهو خالد بكداش في سوريا وأعتقد في لبنان أيضاً، وهو موجود حالياً في سوريا ويذهب دائماً إلى موسكو لحضور المؤتمرات. عاد بعد الوحدة، وكان الضباط احياناً يسمحون له بالدخول الى الأراضي السورية وأحيانا يمنعونه. وقد أصبح نائباً ووجّهت اليه كتاباً مفتوحاً في جريدة الناس انصحه بالابتعاد عن الشيوعية كسوري مخلص لبلده وأن يقوم بخدمته ولكنه كان بالاتفاق مع أكرم الحوراني وزبانيته يوجّه المجلس النيابي باتجاه الشيوعية والإلحاد.

(08:32:04)
س ـ هل باستطاعتك، حسني بك، ان تعطينا رأيك بحزب البعث والحزب السوري القومي؟

ج ـ حزب البعث لم يكن اساسه علوياً فقد أسّسه ميشال عفلق وكان أكرم الحوراني قد أسس كتلة في حماه باسم حزب الشباب ثمّ أصبح اسمها الحزب الإشتراكي، ثمّ إنهم وحّدوا الحزبين وأطلقوا عليه اسم حزب البعث العربي الإشتراكي. وبعد أن أصبح الحزبان هيئة واحدة أخذا يسيران نحو الشيوعية، ذلك أنّهما كانا لا يهتمّان إلاّ بالوصول إلى الحكم وتسلّم مقاليد البلاد. وقد دافعت كثيراً في هذا المضمار ناصحاً بتوحيد حزب الشعب الوطني فقد كان أفراد كلا الحزبين يسيرون على طريق التّفرقة، متأثّرين بالمسائل الشخصية والنّزعات الحلبية الدمشقية. وقد قلت الكثير في جريدة الناس وفي المجلس النيابي فلم يسمع مني أحد، غير أن النتيجة كانت دائماً تبرهن على صحّة كلامي. كل ما فعلوه في طريق التوحيد بين الحزبين هو أن أسسوا ما سمّوه بالتجمّع الوطني. فقد ذهب قسم من الكتلتين مع أكرم الحوراني وجماعته. وفي إحدى المقالات بيّنت إن هذا التّجمّع ليس تجمّعاً وطنياً بل تجمّع ضدّ المصلحة الوطنية ويستهدف الشيوعية. وكان على رأس كتلة الحزب الوطني السيد ميخائيليان الذي كان على الرغم من إخلاصه وانتسابه إلى الكتلة الوطنية، ذا نزعة شخصية ضدّ رشدي الكيخا وناظم القدسي وقد سار على طريق عوجاء وظنّ إنه إذا اتّفق مع أكرم الحوراني فيستطيع أن يسيطر عليه. وقد قابلته وأسديت له نصيحة مخلصة بأن طريقته تلك عمياء أشبه شيء باللعب بالنار وسوف تؤدي بالبلاد إلى الضرر.

وبعد حديث طال بيني وبين السيد ميخائيليان في دمشق وعدني وعداً غير قطعي. فوجّهت إليه كتاباً مفتوحاً ونشرته في جريدة الناس شارحاً فيه كيف إنني لم أطمئن من الخطر الذي سيأتي من وراء خطّته، فأرسل إلي صديقاً يخبرني بأنه لا يمكنه تغيير طريقه تلك وإنه سيستمر بالسير عليها لأن أكرم الحوراني مكسب لنا وللحزب الوطني. ولذلك فلن يرجع عن رأيه. وكتبت مقالة ثانية في جريدة الناس وشرحت فيها ما قلته لميخائيليان وما قاله لي ثمّ قلت: " إنّ الأيام ستبرهن مَن هو المخطىء. وهكذا برهنت الأيام عن خطأه الذي كان مبدأ لتحوّل السياسة السورية عن خطّة الحزب الوطني وحزب الشعب إلى سياسة شيوعية أُعطي المجال فيها لخالد بكداش وأكرم الحوراني أن يصولوا ويجولوا في هذا المضمار. وقد نتج عن ذلك موضوع الوحدة مع مصر وذلك بتأثير الضباط الإنقلابيين وبتوجيه من أكرم الحوراني وصلاح البيطار ومساعيهما. وقد جاءت الوحدة مبتورة فكان ذلك سبباً لازدياد طغيان الضباط وعلى رأسهم عبد الحميد السراج ولازدياد طغيان أكرم الحوراني وكان هذان الشخصان يعملان بتوجيه طغمة من الضباط في سبيل منافعهما الشخصية. وكذلك كان موقف الحزب الوطني. لقد كانت مقالاتي تنادي دائماً بعدم الإفتراق وبوجوب الإنضمام والإتّفاق حتى لا يقع الحزبان في مصيبة عظيمة. هذا من ناحية الأحزاب الوطنية.

أما من ناحية الحزب السوري القومي فأنا لست من أعضائه غير أني عندما رأيت تسلّط الضباط البعثيين والشيوعيين على أعضاء الحزب القومي، شملتهم بشيء من العطف دفاعاً عن الحقّ. فقد جُعل مقتل عدنان المالكي فرصة للتّحكم والطغيان وكان من نتيجة ذلك أن عومل أعضاء الحزب القومي معاملة وحشية بربرية بالقتل والتّعذيب. وقد دافعت في جريدة الناس عن هذه الجماعة، لأنني أعتقد أن هذا الحزب يضم بين أفراده جماعة مخلصة، فهو حزب مخلص في عقيدته، نظامي بحبّ بلاده. وقد اتّهموه بقضية الهلال الخصيب فجعلوا منها جريمة، وذلك بدعاية من عبد الناصر والأحزاب الشيوعية، مع أن ذلك لا ينطوي على شيء إلاّ على الإخلاص. فهم يقصدون بذلك ضمّ فلسطين وشرقي الأردن والعراق وسوريا. يقال أن لبنان لا يقع في هذه الخطة. لو فرضنا أن أهدافهم إدخال لبنان في هذه المجموعة العربية، فلبنان هو قطر عربي صغير وهو بكر العروبة وملجأ للنهضة العربية منذ القدم منذ العصور كان خادم في مقدّمة الأقطار العربية التي خدمت العروبة كما أن مصر، مصر وتقوية اللّغة كانوا بواسطة أشخاص أدباء وشعراء لبنانيين ورجال مخلصين من لبنان راحوا لمصر وخدموا العروبة وخدموا اللّغة العربية. وقد كان لبنان في مقدّمة الأقطار العربية التي خدمت العروبة. لذلك فمن الظلم والطغيان معاملة الحزب القومي السوري في دمشق بهذا الشكل الرّهيب.

(08:44:19)
علاقته بمصطفى البرزاني والقضية الكردية في العراق ومصيرها:

(08:44:19)
س ـ هل من الممكن أن تخبرنا عن القضية الكردية في العراق وإلى أي حدّ وصلت؟

ج ـ إن القضية الكردية في العراق هي بنظري قضية محدودة بسيطة. كان أكراد العراق في عهد المرحوم فيصل الأوّل لا يشعرون بأنّهم غرباء بل على عكس ذلك كانوا يتولّون المناصب الوزارية ويدخلون المجالس النيابية. فنوري السعيد كردي وقد تولّى غيره من الأكراد مناصب كبرى. كانوا يعتبرون أنفسهم كباقي إخوانهم العراقيين غير أنه بعد الإنقلابات العسكرية أخذ بعض الضباط العراقيين يظلمون الأكراد ويرهقونهم بقصد النهب والسلب مما حدا بالأكراد إلى المطالبة بالحقوق المحليّة ضمن نطاق العراق لا يطلبون دولة كردية بالعراق وهم عبارة عن مليونين كردي من أصل 6-7 ملايين عراقي. ومن أهمّ مطالبهم أن يكون للغتهم القومية أساتذة في مدارسهم فيدرسونها مع اللّغة العربية. وقد أنكروا عليهم هذه المطالب الطبيعية وأساءوا معاملتهم ثمّ وجّهوا إليهم الحملات العسكرية مراراً وخربوا كل المناطق الكردية الشمالية فاضطرّوا إلى الهرب من مناطقهم، ومات مئات بل ألوف من الأكراد. ومع كلّ هذا كان الأكراد على غاية من الألفة والإتّحاد مع الرجال الآخرين الذين لا علاقة لهم بالموضوع. لكن توسّع الأمر إلى حدّ الظلم.

(08:47:12)
س ـ هل لك علاقة شخصية بمصطفى البرزاني؟

ج ـ كلاّ، كل ما أعرفه عنه إنه رجل كردي مخلص لقوميته الكردية ومن المخلصين للعراق. واله من الشيوخ يُعتقد بإخلاصهم وتقواهم. ذهب مصطفى البرزاني بعد ملاحقته في العراق إلى موسكو حيث بقي حوالي اثنتي عشرة سنة ومعه ما يقارب مئتي شخص. وذلك بعد أن قاموا بإنقلاب فاشل فتغلّبت عليهم الحكومة فذهبوا إلى روسيا. هناك درسوا دروساً عسكرية ثمّ عادوا إلى أماكنهم وطالبوا بمطالبهم الوطنية. دون جدوى. إنهم يشكّلون قوّة رادعة للشيوعية عنيفة مع العلم إنهم بقوا في موسكو مدّة طويلة. إنّهم حرّاس العراق ضدّ الشيوعية، فلو تمكّنوا من تسلّم الحكم لما أفسحوا المجال للشيوعية، ذلك لأنهم ضدّ الشيوعيين وهذا معروف عندهم. والثورة ما تزال قائمة. وهم في المنطقة الشمالية يشكّلون حكومة حقيقية بإدارتها وماليتها واقتصادها وليس للحكومة العراقية أقلّ تأثير عليها. ولا يستطيعون الوصول إليها. إن مَن يريد بقاء القضية الكردية معلّقة هم الضباط العراقيون المتهوّسون وذلك لتكون واسطة للنّهب والسّلب وجمع الثروات ليبقوا أقوياء وليجمعوا الأموال للفرق العسكرية بداعي الحرب.

(08:50:10)
س ـ هل تعتقد بأنها ستُحلّ بطريقة من الطرق؟

ج ـ إذا كان الحلّ هو الحلّ العسكري فمن الصّعب حلّها وكذلك إذا جاء الحلّ من ناحية حزب البعث العربي سواء أكان السوري أم العراقي لأنه حزب البعث ضدّ هذا الوضع، باسم العروبة وباسم القومية العربية لكنّهم كذّابون ، فهو يريد تقوية الشيوعية في حين أن البرزاني والأكراد معروفون بعدائهم للشيوعية. لهذا السبب لا يؤمل بنظري أن يأتي الحلّ من حزب البعث في العراق أو من حزب البعث في سوريا. غير أنه إذا أزيل حزب البعث من كلّ من العراق وسوريا فسوف تُحلّ قضيّة الأكراد بشكل معقول، ويبقى عندئذٍ ضمن الدولة العراقية شعباً مخلصاً للعراق ولقوميته في آنٍ واحد.



Alternative audio formats: husni_barazi.ogg - husni_barazi.flac

American University of Beirut © CAMES, 2007


Last modified: Sun Aug 10 11:58:29 2008